مقالاتمقالات رأي

انتخابات نقابة المهندسين الفلسطينيين، قراءة في النتائج والدلالات

شهدت البيئة السياسية الفلسطينية تحولات مهمة على مستوى العمل النقابي، وكانت البدايات الأولى قد أخدت بعداً وطنياً و خدماتياً، حيث تشكلت جمعية العمال العرب في مدينة حيفا عام 1921 و التي كان من أبرز مهامها الدفاع عن حقوق العمال العرب وسكة الحديد الحجازية في عهد الانتداب البريطاني، لكن سرعان ما تسببت النكبة الفلسطينية عام 1948 في هجرة الكثير من النقابيين الذين تركوا فراغاً واضحاً في العمل النقابي الفلسطيني حتى عام 1967، غير أن منظمة التحرير الفلسطينية أخذت على عاتقها تجديد دماء العمل النقابي، فشكلت الاتحادات والنقابات الأهلية، وبدأت الكثير منها ممارسة أغلب نشاطها في الخارج، إلى جانب نشاطها المحدود في الداخل الفلسطيني. 

عززت السلطة الفلسطينية مع قدومها عام 1993 العمل النقابي في الأراض الفلسطينية، ورغم الانتشار الواسع للنقابات ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، إلا أن البعد السياسي الحزبي ظهر بشكل شديد الوضوح في أنشطتها، وفرض نفسه على أجندات عملها، وبات من الصعب على أعضائها الانفكاك من توجهاتهم الحزبية التي تفرض عليهم الخلط بين عملهم النقابي وميولهم السياسية. 

رغم سيطرة حركة فتح تاريخياً على القرار السياسي الفلسطيني من خلال حضورها الأقوى داخل منظمة التحرير، إلا أن اليسار الفلسطيني ظل المنافس الأبرز لها في العمل النقابي مستفيداً من العلاقات والدعم الخارجي الذي أكسبه مزيداً من القوة التي تبدو شديدة الوضوح في نتائج انتخابات نقابة المهندسين وما أفرزته من شخصية يسارية على رأس الهرم النقابي. 

أما حركة حماس فبقيت شبه منعزلة نقابياً ولم تنجح في تسجيل العديد من مؤسساتها النقابية الناشئة حديثاً في غزة، واضطرت إلى غض الطرف عن أنشطة النقابات المسجلة لدى حكومة رام الله العاملة في غزة ومحاولة التنسيق غير الرسمي مع أعضاءها خوفاً من التضييق عليها مادياً، وهو ما حدث عام 2017 بفضل القرارات التي اتخذها محمود عباس ضد قطاع غزة، لكن في السنوات القليلة الماضية بدأت حركة حماس في الضفة الغربية وغزة بمزاحمة أحزاب منظمة التحرير الفلسطينية على مستوى العمل النقابي مستفيدة من تنامي شعبيتها على حساب حركة فتح. 

وبالعودة للنقابات الفلسطينية، فقد اكتسبت أهمية خاصة كونها تُعبر عن الحالة المزاجية للشعب الفلسطيني، فالانتخابات النقابية ليست مجرد صراع بين الأحزاب على إدارة عمل نقابي خالص، لأن البرامج الحزبية تبقى حاضرة وبقوة في أي انتخابات نقابية، لهذا أدرك محمود عباس حالة الضعف والتراجع التي تمر بها حركة فتح واتخذ قراراً بتأجيل الانتخابات النقابية لمدة ستة أشهر مطلع مارس الماضي. 

ولا شك في أن مساعي محمود عباس الرامية إلى الحد من أنشطة النقابات تدلل على أهميتها وفعاليتها ودورها الوطني تجاه الشعب الفلسطيني، لأن قانون الجمعيات الأهلية الذي أقرته السلطة الفلسطينية في إبريل الماضي جاء متزامناً مع تأجيل الانتخابات النقابية، وقد قوبلت خطوة عباس حينها برفض حزبي ونقابي وشعبي. 

في هذا السياق تُعتبر نقابة المهندسين واحده من أهم النقابات الفلسطينية، كونها تعبر عن شريحة مثقفة لها تأثير واسع داخل المجتمع الفلسطيني، فالنقابة التي تشكلت في مدينة القدس عام 1963 تضم نحو 26 ألف منتسب، نصفهم تقريباً يسددوا رسوم النقابة، لذلك كان لهم حق التصويت، وعليه تمكن  أكثر من 11 ألف منتسب في الضفة الغربية والقدس من التصويت خلال دورة الانتخابات رقم 20 والتي أُجريت في 26 من أغسطس الماضي، وقد تجاوز عدد المشاركين في التصويت 90 % من مجموع المنتسبين للنقابة الذين يحق لهم التصويت، ما يدلل على حالة التنافس الشديد داخل النقابة. 

نتائج انتخابات نقابة المهندسين. 

عبر الانتخاب المباشر يتم اختيار 15 عضواً يمثلون نقابة المهندسين في القدس وكافة محافظات الضفة الغربية، حيث يترشح عن هذا المجلس أربعة مرشحين على مناصب: رئيس النقابة، ونائب الرئيس، وأمين السر، وأمين الصندوق، إذ يتم اختيارهم عبر الانتخاب المباشر، أما الأعضاء الآخرين فيكونوا ممثلين لمناطق أو مدن مختلفة داخل القدس والضفة الغربية. 

وتجري الانتخابات كل ثلاثة أعوام وتتنافس مجموعة من القوائم المدعومة حزبياً والمستقلة، وجرى التنافس بين قائمتي “المهندس الفلسطيني” المدعومة من حركة فتح وبعض أحزاب منظمة التحرير الصغيرة، وقائمة “العزم المهنية” التي تجمع تحالف حركتي حماس والجبهة الشعبية، لقد حازت قائمة “المهندس الفلسطيني” التي تدعمها حركة فتح على 11 مقعداً من أصل 15 مقعداً مجموع أعضاء مجلس النقابة، لكنها فشلت للمرة الأولى في السيطرة على مقعد رئاسة النقابة وأمين السر وأمين الصندوق التي ذهبت لصالح قائمة “العزم المهنية” بالإضافة لمقعد عضوية، لتكون النتيجة النهائية 11 عضواً لقائمة المهندس الفلسطيني، مقابل 4 أعضاء لقائمة العزم المهنية. 

الجدير بالذكر أن حركة فتح بالتحالف مع بعض فصائل اليسار كانت قد فازت بجميع مقاعد الدورة الانتخابية الماضية رقم 19، لهذا فإن خسارتها لأربعة مقاعد منها ثلاثة على مستوى الرئاسة وأمين السر وأمين الصندوق يمثل خسارة كبيرة بالنسبة لحركة فتح، والجدول التالي يوضح النتائج:

حول أهمية نتائج الانتخابات. 

ركز الإعلام المحلي الفلسطيني على أربعة مقاعد حصلت عليها قائمة العزم المهنية متجاهلاً نحو 11 عضوية من أصل 15 حصلت عليها حركة فتح وتحالفاتها داخل نقابة المهندسين، ويكمن تركيز الإعلام على مقاعد المعارضة في أن تلك النتيجة تُعد سابقة تاريخية، فتلك الانتخابات لا تتشابه مع سابقاتها كونها تأتي بعد تعطيل مرسوم محمود عباس لكافة انتخابات النقابات لمدة وصلت 6 أشهر، وهو ما خلق حالة صراعية بين النقابات المهنية والجمعيات الأهلية من جهة، والسلطة الفلسطينية من جهة أخرى، حتى وصل الأمر إلى حد استقالات بعض رؤساء النقابات، كنقيب المحاميين “جواد عبيدات” الذي استقال احتجاجاً على قرار تأجيل الانتخابات، وتمت إعادته إلى منصبه بممارسة الكثير من الضغوط عليه.  

من جانب آخر فإن تأجيل الانتخابات كان قد خلق حالة من الفراغ على مستوى كافة النقابات الفلسطينية التي كانت تستعد لانتخاباتها الدورية في مارس الماضي، وهذا ما نقل الصراع بين النقابات والسلطة الفلسطينية إلى شوارع وميادين الضفة الغربية والقدس، لأن انتخابات نقابة المهندسين تأتي بعد أشهر قليلة من إلغاء محمود عباس للانتخابات التشريعية والرئاسية، وهو ما تسبب في تصاعد حدة الاستقطاب السياسي داخل الضفة الغربية ولجوء السلطة الفلسطينية إلى قمع الحريات بعد حادثة قتل الناشط “نزار بنات”. 

في سياق أخر أخذت الانتخابات أهمية خاصة، كونها شهدت تحالفاً غير مسبوق بين حركة حماس وحزب يساري، والمعروف في السياسة الفلسطينية إن أحزاب اليسار أقرب تاريخياً إلى حركة فتح، غير أن السنوات الأخيرة شهدت صراعاً معلناً وغير مُعلن بين حركة فتح والجبهة الشعبية أهم أقطاب اليسار الفلسطيني، ووصل الأمر إلى حد تحالف الأخيرة مع حركة حماس، وهو ما يوضح مستوى الصراع الذي وصل إليه اليسار الفلسطيني وحركة فتح. 

كما أن وصول “نادية حبش” لرئاسة نقابة المهندسين يمثل حدثاً غير مسبوقاً في تجربة النقابات الفلسطينية، ولم يسبق لأي نقابية أن ترأست نقابة أو مؤسسة أهلية عبر الانتخابات، علاوة على أن توافق حركتي حماس والجبهة الشعبية على شخصية نادية حبش يظهر نوعاً من التحول على مستوى الأحزاب السياسية الفلسطينية التي اتجهت مؤخراً إلى مشاركة المرأة الفلسطينية بفاعلية أكبر على مستوى قرارها السياسي، وهنا يتفق وصول نادية حبش مع ما حملته قوائم الانتخابات التشريعية الملغاة بقرار من الرئيس عباس في مايو الماضي، حيث تجاوز تمثيل المرأة أكثر من 30%. 

ولا شك في أن انتخابات نقابة المهندسين قد عبرت عن الصراع بين السلطة والمعارضة، فحركة فتح التي تمثل السلطة الفلسطينية حاولت جاهداً تعطيل الانتخابات بقرارات الرئيس عباس، ثم اتجهت لأشكال أخرى، كاقتحام بعض مراكز التصويت لاسيما في الخليل ونابلس، وهو ما أثر على سير العملية الانتخابية، كما وجهت نقيبة المهندسين “نادية حبش” بعد ساعات قليلة من فوزها برئاسة النقابة، رسالة إلى السلطة الفلسطينية، أكدت خلالها على انتصار الخط الرافض للتطبيع والقمع الذي تمارسه السلطة الفلسطينية بحق المعارضين وأبرزهم الناشط “نزار بنات”. 

هذا فضلاً عن دخول حركة حماس على خط النقابات لاسيما نقابة المهندسين، وهو ما يشير إلى اهتمامها بالعمل النقابي ومحاولة الاستفادة من شعبيتها داخل الضفة الغربية، ومزاحمة حركة فتح التي تسيطر على المشهد أمنياً وسياسياً، وقد ظهر ذلك سابقاً في تصدرها للكثير من انتخابات الجامعات. والواضح أن الصراع الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية ونشطاء حماس بدأ يأخذ طابعاً سياسياً خلال السنوات الأخيرة، فالسلطة الفلسطينية التي كانت تواجه مقاومة حماس في مخيمات وقرى الضفة الغربية ستكون مضطرة لمواجهتها في ميادين وأدوات مختلفة. 

دلالات الحدث.

لا يعني توجه المهندسين نحو التصويت لحركة فتح وحصولها على 11 عضوية من أصل 15 عضوًا حالة من السيطرة الفتحاوية، لأن نظام النقابة يخصص مقعداً لكل محافظة بغض النظر عن عدد المهندسين المنتسبين لها، مثلاً محافظة نابلس تضم 5 آلاف عضوية وهي تقترب من ربع أعضاء النقابة في عموم الضفة الغربية والقدس، ومعنى فوز قائمة العزم المهنية في نابلس هو أنها حصلت على الأغلبية التي تضم نحو ربع أعضاء نقابة المهندسين عموماً، على عكس محافظة أريحا وطوباس، وتلك مدن لا يتجاوز عدد المهندسين المنتسبين لها حد 120 منتسباً. 

ثمة دلالة تتعلق بالتصويت والفارق في عدد الأصوات التي حصلت عليها رئيسة النقابة نادية حبش في صراعها مع مرشح حركة فتح سامي حجاوي، وقد كان الفارق 700 صوتاً، وهي نسبة كبيرة وغير مسبوقًة في تاريخ انتخابات النقابة، بينما أن خسارة قائمة حماس والشعبية في مدينة الخليل ذات الكتلة التصويتية الكبيرة لم يتجاوز حد ال 20 صوتاً فقط، أي أن حركة فتح لم تحسم الصراع في مدينة الخليل بفارق كبير. 

في سياق مختلف، لعبت المناطقية دوراً مهماً في النتائج، لأن نائب رئيس النقابة “منذر البرغوثي” استفاد دوناً عن غيره من أصوات مدينة رام الله الذي ينتمي إليها، وقد ساعدته أصوات مدينة رام الله إلى الوصول لنائب رئيس النقابة، وكذلك الحال بالنسبة لعز الدين أبو غربية الذي فاز بعدد كبير من الأصوات في الخليل بسبب الانتماء لها على عكس المرشحين الأخرين، وهذا يرجع إلى المناطقية وكبر حجم العائلة وانتماء الكثير منها للنقابة في رام الله والخليل. 

أما دلالة التخصصات فلم تغب عن المشهد الانتخابي، لأن معظم ناخبي تخصص المعماري والمدني كان توجههم نحو قائمة المعارضة المدعومة من حماس والشعبية، لأن غالبية هؤلاء يعملون في القطاع الخاص ومتحررين من ضغوط السلطة الفلسطينية، على عكس ناخبي تخصصات هندسة الميكانيكا والكهرباء، وأغلب هؤلاء يعملون في القطاع الحكومي ومتأثرين بالضغوط الحكومية على توجهاتهم، وقد جاءت معظم أصواتهم لمصلحة حركة فتح. 

بالإضافة إلى دلالة التخصص، فقد لعبت الإيديولوجيا دوراً مهماً في محافظة بيت لحم، لأن قائمة المعارضة المدعومة من حماس خسرت بأعداد كبيرة بسبب وجود الكتلة المسيحية والعلمانية المعارضة للإسلام السياسي، وهؤلاء لم يصوتوا لقائمة حماس، بل صوت الكثير منهم لفتح حتى لا تنجح حماس. 

ختاماً.  

وضعت نتائج انتخابات نقابة المهندسين حركة فتح والسلطة الفلسطينية أمام إشكالية جديدة كانت قد نجحت في تأجيلها لعدة أشهر، وأصبحت على موعد مع تحديات أخرى لا يمكن تجاهلها، لإن انتخابات نقابة المهندسين مجرد بداية لانتخابات نقابية أخرى منتظرة، فسيطرة المعارضة على المناصب العليا في نقابة المهندسين الفلسطينيين يمكن أن يدفع حركة فتح والسلطة الفلسطينية لإعادة النظر في حساباتها خلال المرحلة المُقبلة، خاصة وأن تحالف حركة حماس والجبهة الشعبية لن يتوقف عند نقابة المهندسين. 

لقد ظهر حضور المعارضة بشكل غير مسبوق في نتائج انتخابات نقابة المهندسين، علاوة على أن النتائج كانت عباره عن استفتاء أظهر تراجعاً واضحاً في شعبية حركة فتح في الضفة الغربية، فضلاً عن خسارتها لحلفائها لمصلحة حركة حماس، وهذا من شأنه أن يدفع محمود عباس إلى اتخاذ إجراءات مستقبلية قد تعيق أو تعطل العمل الديمقراطي على مستوى النقابات. 

إذا كانت انتخابات نقابة المهندسين مرهونة بشريحة معينة تُعطي للسلطة الفلسطينية القدرة على توجيه الكثير من المرشحين العاملين في الجهاز الحكومي، فإن الوضع سيكون مختلفاً على مستوى انتخابات البلديات والمحليات المُحتمل إجراءها قبل نهاية العام الجاري، وهو ما يمكن أن يدفع السلطة الفلسطينية إلى تأجيلها لتفويت الفرصة على المعارضة.

اظهر المزيد

إياد جبر

كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق