الانعتاق من سجن جلبوع، في دلالات الحدث الكبير
فجر يوم الاثنين السادس من أيلول سبتمبر ٢٠٢١، تمكن ستة أسرى فلسطينيين من الانعتاق من سجن جلبوع الأمني، والذي يصنف كأكثر السجون الأمنية الإسرائيلية صرامة فيما يتعلق بالإجراءات الأمنية اللازمة لمنع أي عملية هروب من السجن، أحدثت عملية الانعتاق صدى واسعًا في الحالة الفلسطينية، أهمها حالة الاحتفاء الواسع من قبل المجتمع الفلسطيني بكافة شرائحه وتياراته بالعملية، الاحتفاء الذي وصل صداه للمجتمعات العربية التي أظهرت تضامنها وتأييدها للحدث بشكلٍ كبير، رغم ما تعيشه هذه المجتمعات من محاولات لتجريف مواقفها الفطرية والطبيعية تجاه القضية الفلسطينية.
الانعتاق من السجن، قراءة في السوابق التاريخية.
لم تكن حادثة سجن جلبوع هي الوحيدة في تاريخ المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، بل سبقها حالات انعتاق متعددة، بعضها لعب دورًا محوريًا في التاريخ الفلسطيني، وساهم في خلق مسارات كبرى مثل الانتفاضة الأولى، إذ كان لعملية الانعتاق من سجن السرايا عام ١٩٨٧ من قبل ستة أسرى من الجهاد الإسلامي يقودهم مصباح الصوري والتي حدثت قبل الانتفاضة بعدة شهور، دورًا كبيرًا في تحفيز المجتمع الفلسطيني للانتفاض، وذلك من خلال وقع العملية نفسها نظرًا للصيت السيء لسجن السرايا المركزي، فضلًا عن نجاح الخلية بتنفيذ عدة عمليات عسكرية، من ضمنها عملية الشجاعية، وختامًا باستشهاد أفراد خلية في اشتباك كبير مع جيش الاحتلال.
بعد عملية الانعتاق الكبير من سجن السرايا، نجحت خلية أخرى تضم ثلاثة أسرى وهم الأسير خليل الراعي وشوقي أبو نصيرة وكمال عبد النبي من الانعتاق من سجن نفحة، كما نجح غسان مهداوي وتوفيق الزبن من الانعتاق من سجن كفار يونا عام ١٩٩٦، فضلًا عن محاولات متعددة للهرب لم يكتب لها النجاح، كان أشهرها محاولة ١٦ أسيرًا من حركة حماس بقيادة محمود عيسى من الانعتاق من سجن عسقلان من نفس العام، كما نجح ثلاثة أسرى من الانعتاق من سجن عوفر عام ٢٠٠٣.
باختصار لم تتوقف محاولات الانعتاق من سجون الاحتلال من قبل الأسرى الفلسطينيين، إذ توجد هناك قاعدة معروفة لدى الأسرى في سجون الاحتلال مفادها بأن أول شيء يفكر فيه الأسير عندما يدخل السجن هو كيف ينجح بالهروب منه، وهذه ليست جملة مجازية، وتعززها عشرات محاولات الانعتاق، سواء تلك التي تكللت بالنجاح أو التي لم يحالف أصحابها الحظ. (١)
في الدلالات العظيمة.
أعطت الحادثة دفعة معنوية كبيرة في صفوف المجتمع الفلسطيني، وهذا يمكن تلمسه عبر ردة الفعل الواسعة التي جرى رصدها منذ الحدث، إذ تكثفت رمزيات المجتمع الفلسطيني مرة واحدة في حدثٍ واحد، فإرادة الفعل رغم تعقيد المعطيات الموجودة، وأهمها شدة الإجراءات الأمنية في السجن، وشخصية المنفذين والذين يمتلكون رصيدًا شعبيًا كبيرًا في محيطهم الاجتماعي والفصائلي، فضلًا عن كون منفذي الفعل هم أسرى فلسطينيون، وهي أحد أهم القضايا الرئيسية للمجتمع الفلسطيني، كل ذلك أعطى الحدث دويًا كبيرًا سواء لدى المجتمع الفلسطيني، أو دولة الاحتلال.
كما تجيء عملية الانعتاق، لتدلل على تبلور توجهات فلسطينية واسعة بخصوص تبني المقاومة والايمان بجدواها، إذ أنه وبعد معركة سيف القدس، والتي أحدثت تحولًا كبيرًا في رصيد المقاومة الفلسطينية في الشارع الفلسطيني، ارتفعت قيمة الفعل المقاوم بشكل لافت، وأصبح كل حدث مقاوم يلقى تأييدًا واعجابًا واسعين، وهذا يمكن ملاحظته عبر عملية استهداف قناص جيش الاحتلال شرق غزة بتاريخ ٢١ اغسطس ٢٠٢١، وعملية الانعتاق الأخيرة من سجن جلبوع.
الأهم مما سبق، فإن الإرادة التي وقفت خلف العملية، وما رافق تلك الإرادة من صبر وتخطيط وذكاء، وعدم الاستسلام للواقع مهما بلغ تعقيده، تدلل بشكل راسخ على تجذر المقاومة في الوعي الفلسطيني، ومدى الإصرار على هذا الخيار، ورفده بكل وسائل القوة المعنوية والمادية، أما على صعيد الاحتلال، فهو يدرك خطورة النجاحات الموضعية التي يتمكن المقاومون الفلسطينيون من تحقيقها، إذ أن نجاح عملية واحدة تقود لمجموعة من الخطوات المشابهة لاحقًا، بسبب الوقع الذي تحدثه، ولدى الوعي الإسرائيلي تجارب مريرة في هذا الموضوع تحديدًا، فعملية الانعتاق من سجن السرايا، وعمليات المطاردين في الانتفاضة الأولى، كلها راكمت في وعي الفلسطينيين أهمية المقاومة، وضرورة الحفاظ على هذا الخيار مهما حدث.
في المسؤولية السياسية والشعبية.
أسفرت حادثة الانعتاق عن تبني شرائح كبيرة من المجتمع الفلسطيني لخيارات المقاومة مهما اختلفت أشكالها ودرجاتها، فخيار المقاومة سواء بشكله الشعبي أو المسلح، يحوز على النسبة الأكبر من توجهات المجتمع الفلسطيني بناء على استطلاعات الرأي (٢)، وبالتالي فهناك مسؤولية لتحويل هذا الإيمان الفطري من جانب والمعنوي من جانب آخر لمسار فعل حقيقي على الأرض، وذلك عبر مجموعة من الخطوات، مثل توفير الحماية المجتمعية لمنفذي الفعل المقاوم، وتقليص درجة الخطر الأمني تجاههم عبر العديد من الإجراءات الشعبية، والتكافل الاجتماعي تجاه عوائلهم لاحقًا.
أما المسؤولية السياسية، فتكمن في ضرورة تجاوز الأطر السياسية الفلسطينية للكثير من مشاكلها السابقة، والعمل على الاستثمار الأمثل للفعل المقاوم في فلسطين أولًا، ولاستجابة الشارع لكل خيارات المقاومة شعبيًا وجماهيريًا ثانيًا، فمنذ الانتفاضة الأولى على الأقل، استطاع المجتمع الفلسطيني اجتراح وخلق آفاق واسعة عبر الانتفاض بشكل مباشر وشعبي، فالانتفاضة الأولى والثانية، وهبة القدس عام ٢٠١٥، وهبة باب الأسباط عام ٢٠١٨، وهبة القدس عام ٢٠٢١، كلها تدلل على قدرة المجتمع على خلق بدايات كبيرة لمسارات استنزاف حقيقي للاحتلال، بينما كان النقص الأساسي متمثلًا في قدرة الفصائل الفلسطينية على تحويل هذه المنجزات لمكاسب سياسية صلبة وواضحة.
وعلى الرغم من الدور السلبي للسلطة في تعطيل مسارات الفعل الفلسطيني وارهاقه، عبر استغلال شرعيتها المعترف بها اقليميًا ودوليًا لمنع قوى المقاومة من تحقيق مكاسب للمجتمع الفلسطيني مثل الموقف في حرب ٢٠١٤ ومعركة سيف القدس، فضلًا عن افشال مسار الانتخابات التشريعية والرئاسية في عام ٢٠٢١، إلا أنه من المهم إيجاد بدائل لهذا الخيار، عبر مراكمة الفعل المقاوم أولًا، واستمرار الضغط على قيادة السلطة لتبني خيارات أكثر “فلسطينية” ثانيًا.
وختامًا، فإنه وبجانب ما سبق، فمن المهم لقوى المجتمع الفلسطيني المراكمة على كل فعل مقاوم يظهر في الحالة الفلسطينية، وتوجيه هذه القدرة نحو مسارات مجدية، وذلك لمنع العدو من استغلال نتائج هذه الأحداث لصالحه، عبر إعادة تصميم خيارات المجتمع الفلسطيني ومحيطه الجغرافي والديموغرافي والأمني، وهذا لا يكون إلا عبر الحفاظ على الاستمرارية في الفعل.
(١) للمزيد حول عمليات الانعتاق من السجون، يمكن الرجوع لثلاثة أجزاء أصدرها موقع باب الواد “هنا” و “هنا” و “هنا“
(٢) حسب الاستطلاع الفصلي الثابت الذي يجريه مركز البحوث المسحية، تحوز “الخيارات المقاومة” بكافة درجاتها دائمًا على النسبة الأكبر من تأييد المجتمع الفلسطيني