وجهات نظر، الشباب والسياسة في فلسطين
يشكل الشباب العنصر الأهم في البناء التنظيمي للأحزاب والهيئات العامة، نظرًا لتمركزهم في المستويات الوسطى والتنفيذية المسؤولة عن تحويل الخطوط الاستراتيجية المقرة من الهيئات العليا إلى سياسات وبرامج تنفيذية، فضعف فعالية وتواجد الفئات الشابة سيفضي بالضرورة إلى أزمة في العمل التنظيمي، تضعف من حضور وتأثير أي حزب أو فصيل سياسي لفقدانه القدرة على إنفاذ سياساته وتحويلها إلى برامج تعمل في الميدان.
في هذ المقال نسعى إلى تناول بعض من مظاهر أزمة انخراط الفئات الشابة في العمل التنظيمي والسياسي وانعكاساتها على السياسة في فلسطين.
أزمة السياسة في فلسطين.
ساهمت المواجهة المفتوحة مع الاحتلال الصهيوني وما رافقها من سياسة الاغتيالات، في تسريع عمليات التصعيد التنظيمي داخل الفصائل الفلسطينية، الأمر الذي أدى وفقًا للباحث السياسي ساري عرابي إلى دفع الشرائح الشابة نحو الانخراط في العمل التنظيمي والفصائلي، تحديدًا العسكري منه في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومع وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عام ٢٠٠٤ بدأ لهيب الانتفاضة بالخفوت لصالح إعادة ترتيب المشهد الداخلي من خلال الانتخابات المحلية والرئاسية وأخيرًا التشريعية، لتنتج هذه العملية اقتتالًا داخليًا أفضى إلى الانقسام الفلسطيني عام ٢٠٠٧، وهو الذي أسس لمرحلة جديدة في النظام السياسي الفلسطيني، مما أدى لانحصار المساحة السياسية والعامة، فضلًا عن تراجع مقولات المواجهة مع الاحتلال لصالح الوحدة الوطنية وانهاء الانقسام.
وترافق ذلك مع سياسات وإجراءات قمعية ساهمت كما يرى الصحفي أحمد العاروري في تجريف الحالة التنظيمية في الضفة الغربية والقضاء على بناها التنظيمية، أما في قطاع غزة فيرى الباحث أحمد أبو ارتيمة أن القطاع يشترك مع باقي المناطق في تأثير الأزمة الداخلية على علاقة التنظيمات مع الفئة الشابة، لكنه يضيف إلى ذلك عوامل أخرى أهمها شكل المقاومة الفلسطينية السائد في قطاع غزة والمستند على المقاومة المسلحة، والتي يرى فيها أبو ارتيمة فعلاً نخبويًا بطابعه، يجعل من الصعب تعبئة كافة شرائح وقوى الشعب الفلسطيني، مما يستدعي ابتكار أدوات جديدة تساهم في إيجاد مساحة مشاركة أوسع، مثل الاحتجاج الشعبي الذي يضمن تعبئة شرائح أكبر من المجتمع الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.
أزمة التنظيم الفلسطيني.
تاريخيًا اعتمدت الفصائل الفلسطينية في بنائها التنظيمي الداخلي على فكرة ونظرية الديمقراطية المركزية، متأثرة بالأحزاب والأفكار اليسارية التي راجت كنموذج في النصف الأول من القرن الماضي، وتسعى الديمقراطية المركزية إلى الجمع ما بين متناقضين، الأول العملية الديمقراطية والثاني المركزية في صنع القرار، وذلك لتمكين التنظيم من العمل في بيئة تتسم بعدم الاستقرار والتهديدات الدائمة، وهذا ما يتناسب مع التنظيمات الفلسطينية العاملة في بيئات تتسم بعدم الاستقرار والتهديد المستمر، فاتخذت هذه الفصائل من النظرية مرجعية – حتى غير المقرة بذلك- بدءًا من فصائل اليمين الفلسطيني كحركة فتح وحماس والجهاد وصولاً الى فصائل اليسار الفلسطيني.
أقصت الفصائل الفلسطينية في تطبيقها للنظرية، فكرة الديمقراطية واحتفظت بفكرة المركزية، فتراجعت عمليات النقد الداخلي، وغابت الانتخابات الدورية لصالح التكلس والجمود، هذا الأمر وفقًا للمدون محمد أبو شنب ساهم في تعزيز النظرة السلبية للفئات الشابة “ليس فقط للهيكل التنظيمي، وإنما لتشابك وتعقيدات الحالة التنظيمية، بما فيها الانتخابات التي يتم تنظيمها في بعض الفصائل والتي يشوبها الكثير من المخالفات”، التي تعمل على تعزيز الواقع الراهن دون أن تحمل في طياتها أملًا في التغيير أو نافذة حقيقية يمكن التعويل عليها في مواجهة ” النظام الأبوي” كما يسميه الناشط والكاتب موسى معلا.
ويرى الصحفي احمد العاروري أن الانخراط في العمل التنظيمي يتباين من منقطة إلى أخرى تبعاً للظرف السياسي، فقطاع غزة يشهد نسبة تفاعل أكبر منها في الضفة الغربية أو الداخل الفلسطيني 48، ففي غزة تلعب الأجنحة العسكرية دورًا في عملية استقطاب الفئات الشابة، خاصة في ظل ما يمتلكه العمل العسكري من جاذبية وحركية مقابل العمل السياسي الرتيب.
ساهمت العوامل السابقة في تفاقم أزمة المستويات الوسطى والدنيا في التنظيمات الفلسطينية، مما انعكس على قدرتها في العمل الجماهيري والشعبي الذي شهد تراجعًا ملحوظًا في مقابل صعود أنماط جديدة من العمل التنظيمي وتحديدًا خارج فلسطين، استطاعت الاعتماد على مبادئ تنظيمية تجاوزت فيها فكرة ” المركزية الديمقراطية”، مثل نموذج عمل حركة مقاطعة إسرائيل ” BDS ” وحركات التضامن مع فلسطين المعتمدة على العمل الشبكي الذي يمزج ما بين الخصوصية المحلية والمبادئ الكلية، وذلك من خلال تمكن الوحدات المحلية من إنجاز مهامها التنظيمية وفقًا للطريقة التي تناسب إمكانيتها المادية وطبيعة ظرفها السياسي، فمكن تقسيم الوظائف الكلية إلى مهام صغرى هذه الوحدات من تجاوز عائق التمويل، ومكنت اللامركزية والحرية التنظيمية الوحدات المحلية من التشبيك والتكاثف مع أصدقائها وشركائها المحليين، مما زاد من مناعتها وتحصينها ورفع قدرتها على البقاء والصمود أمام حملات الاستهداف.
العمل السياسي كـ” بوست أو تويتة “.
شهدت السنوات العشر الماضية تصاعدًا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في فلسطين، وتحديدًا موقع فيسبوك الذي حافظ على موقعه الأول في شبكات التواصل الاجتماعي المستخدمة في فلسطين بنسبة تقارب ٩٣٪ من مستخدمي الانترنت، وشكلت مواقع التواصل الاجتماعي المصدر الاخباري الأول لـ٨٣.٣٪ من مستخدميها متقدمة على المواقع الإخبارية والاذاعات المحلية.
في السنوات الأولى لظهور مواقع التواصل الاجتماعي ونشاطها، استخدمتها فئة من الشباب الفلسطيني كإطار بديل للتنظيم الفلسطيني التقليدي وفي مواجهته احيانًا كثيرة، فلعبت مواقع التواصل دورًا محوريًا في تنظيم وتحشيد الحراك الشبابي في قطاع غزة والضفة الغربية، لكن اصطدام ” الحراك الشبابي” بتعقيدات المشهد الفلسطيني وعجزه عن إحداث تغيير في أهم القضايا التي تصدى لها – كإنهاء الانقسام- دفعه للانسحاب من العمل الميداني، والاتجاه الى العالم الافتراضي الذي تحول من أداة تواصل تدعم مساحة العمل العام إلى المساحة ذاتها، فحل ” الترند” محل الاعتصام أو المظاهرة، وأصبح ” البوست” بديلًا عن الهتاف والمشاركة، وتحولت المهارة التنظيمية من جمع الناس وتنظيمهم في الميدان الى جمع ” المتابعين” الافتراضيين، هذا الأمر ترك أثرًا سلبيًا وفقًا للباحث والكتاب ساري عرابي، خاصة في ظل غياب العمل الميداني واقتصار المشاركة السياسية على الكتابة والتعليق، فغضب الشارع أو رضاه أصبح محصورًا في تفاعل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الأقل مناعة عن الاختراق والتأثير من العمل الميداني.
فمن السهل للجهات المسيطرة التأثير على أجندة مواقع التواصل أو التعامل مع ظواهرها من خلال أدواتها – بدءًا من الذباب الالكتروني وصولًا للتعقب والاختراق وغيرها، على خلاف العمل الميداني الأكثر صلابة ومناعة والأكثر قدرة على الصمود والبقاء والإنتاج.
ختامًا، في ضرورة تحرير المساحات الصغرى.
تشهد الحالة السياسية الفلسطينية حالة من انسداد العمل السياسي انعكست على الاجسام والهيئات التنظيمية والحركية، فتراجعت جاذبيته لدى الشرائح الشابة التي حاولت إيجاد أنماط جديدة لممارسة العمل العام بعيدًا عن الاجسام التنظيمية التقليدية، لكن حالة الإخفاق التي منيت بها هذه الشرائح دفعتها باتجاه حالة من ” العطالة السياسية” حرمت الفصائل الفلسطينية من طاقات الشباب الذين بدورهم عجزوا عن إحداث أثر حقيقي في المشهد العام.
تتعد العوامل والأسباب التي ساهمت في تفاقم هذه الحالة وانتشارها، وعلى رأسها إهمال الفصائل الفلسطينية لأهمية ودور المساحات الصغرى في العمل السياسي، بالإضافة الى عجز الشباب الفلسطيني عن امتلاك الأدوات الحقيقية التي تمكنه من إحداث أثرٍ حقيقي، فعلى صعيد الفصائل الفلسطينية فلا يمكن لها حل إشكالية استقطاب الفئات الشابة دون أن توفر مسالك لاستقطاب وتصعيد هذه الفئة عبر تطوير أجسامها الطلابية والشبابية، عبر العمل على فتح العمل السياسي في هذه المساحات وتمكين اجسامها من العمل بحرية وفي أجواء تنافسية حقيقية.
أما على صعيد الفئات الشابة فبدلًا من الانشغال في قضايا سياسية تفوق قدرتهم وتأثيرهم – كالانقسام مثلاً- كان بالإمكان العمل على تركيز النضال والنشاط باتجاه تفعيل الحياة الطلابية والنقابية في فلسطين، خاصة في ظل غياب الانتخابات الطلابية عن الكثير من جامعاتها ومواقعها الاكاديمية، فهذه الخطوة كافية بمنح الشباب مساحة جديدة يمكن من خلالها الانطلاق منها نحو أهداف وغايات أكبر، ولا يجب أن ننسى أن نواة الفصائل الفلسطينية الحالية جاءت من الحركة الطلابية في الجامعات العربية والفلسطينية، مما يدفعنا الى التأكيد على أهمية وضرورة التوجه نحو هذه المساحات واحيائها وتحصينها سياسيًا من تمدد حالة الانسداد والعطالة السياسية بحيث تكون رافعة للعمل السياسي الفلسطيني.