إرادة الهدوء وهدوء الإرادة
“إذا استعد طرفان للحرب، فلا بدّ أن بعض الدوافع العدائيّة قد أوصلتهم إلى تلك النقطة، وستدوم قوّة وفعالية الحافز العدائيّ ما دام الطرفان تحت السّلاح (دون البحث عن تسوية). ولن يكبح جماحهما سوى اعتبار واحد، هو: الرغبة في انتظار اللحظة الأفضل قبل التحرّك”[note]كلاوزفيتز، “عن الحرب”.[/note].
في مساء الثاني عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 2018 ادّعت قوّة تتبع لألوية الجبهة الداخليّة الإسرائيليّة -“هاغا”- خدمتها في وحدة نخبة تحرّكت لإسناد الوحدات القتاليّة المتواجدة على حدود قطاع غزّة، والتي استدعيت احتياطاً، عقب مواجهة عسكريّّة نشبت بين المقاومة في غزّة وجيش الاحتلال، ورغم قرار المنع الذي بموجبه تستبعد الشّرطة العسكريّّة تواجد القوات أو مرور المركبات إلى خارج نطاق المدفعيّة التكتيكيّة للعدوّ، سمحت للقوّة بالمرور إلى محيط نصب “السّهم الأسود” شرق جباليا.
على الطرف المقابل للقاطع العسكريّّ والذي بدا مكشوفاً، ويخلو من أيّة عوارض جغرافيّة حامية أو جُدُرٍ تحصينيّةٍ، كانت وحدة من المقاومة الفلسطينيٍة ترصُدُ تحرّك المركبة العسكريّّة الإسرائيليّة لحين إنزال جنودها فيما يُسمّى أحراش “مفلاسيم”. بعدها، استهدف المقاومون الفلسطينيّون المركبة بصاروخ “كورنيت” مضادّ للدروع. أُطلق الصّاروخ من مسارٍ مرتفعٍ يتجاوز السّياج الأمنيّ، وأصاب خاصرة المركبة ودمّرها.
فرضية هامشيّة
تُصّرُ الرواية الإسرائيلية أعلاه على تحميل قائد الفرقة مسؤولية الخطأ في ادعاءاته أمام حاجز الشّرطة العسكريّّة، عبر محاولة توظيفها لتداخل الصّلاحيات بين قيادة ألوية الجبهة الداخليّة وقيادة الألوية المناطقيّة، كسبب لاستهداف المركبة. في حالات الطوارئ تنتقلُ الصّلاحيةُ تلقائياً لقادة الألوية المناطقيّة، إذ تُناط بهم في هذه الحالة مسؤوليةُ التحكم بمحاور تنقل القوات إلى الجبهة حسب الحاجة.
تفقد تلك الرواية الإسرائيلية مصداقيتها، ولكن ليس للسبب المذكور أعلاه، بل لأنّ تلك الرواية قدّ تجاوزت الحديث حول أحد أسوأ إخلالات التعبئة والتحشيد، والتي تُحيل إلى أنماط انفتاح وتحريك القطعات أثناء المعركة لهندسة التحصين، والتي ستكون أمام لجنة التحقيق التي شكّلها جيش الاحتلال الإسرائيلي مهمّة إطلاق النار على الرتب العسكريّّة العليا، التي أهملتها وتراخت في حساباتها وسمحت بنشر القوات في تلك المنطقة، وبالتالي كان هناك من اختار اللحظة المناسبة لاستهدافها.
للحرب غايةٌ متطرفةٌ، وتعي ذاتها حينما يعزم طرفٌ على إلحاق أقصى الممكن من الأذى بحقّ خصمه، أن يقهر إرادته القتالية، ويجرّده من كلّ قوّته وحوله، وأن يضعه في موقفٍ لا يستطيعُ معه مواصلة القتال. لكن احتمالات الواقع الحيّ تفرض نفسها عادةً محلّ التّطرف والنظرية المطلقة للحرب، فحينما يبدأ الهدف السّياسي (المحرّض الأساسي للعمل العسكريّ) بالفعالية، فإنّ هذا التّطرف يبدو أكثر تواضعاً وحكمةً في حسابات الحرب، فالحرب في عمومها لا في مظهرها المطلق عملٌ من أعمال السّياسة، سياسة يطوّقها العنف.
يعرّف كتاب “عن الحرب” طرفي الحرب بناءً على منطلقات العمل والرغبة في المبادأة؛ الطرف الأول، وهو الطرف الذي يمتلك منطلقات أٌقوى للعمل -المُهاجِم- والذي يرغب بالتحرك أولاً، والثّاني خصمه -المُدافِع- والذي سيتحرك بعده تلقائياً.
ستبقى الرغبة في انتظار اللحظة الأنسب ما قبل التحرك ذاتَ فاعلية مستمرة لأحد طرفي الحرب، إلا لو افترضنا حسابياً، توازناً مُطلقاً في قوات الطّرفين، وهو الأمر الذي سيؤدي حتماً إلى التّوقف التّام للأعمال القتاليّة. ولأنّ هذا النوع من التّوازن سيظلّ افتراضيّاً لا واقعيّاً، فإنه يمكن تصوّر التّوازن بشكل آخر، وهو حينما يكون الطّرف ذو الغاية الإيجابيّة؛ أيّ الذي لديه منطلقات أقوى للعمل، هو الطرف الذي يمتلك قوات أضعف. عندها سينشأ التوازن بفعل تأثيراتٍ مُتشابكةٍ في ميزان القوى بين الغاية والقوّة. وإذا ما كان التّحوّل أو الإزاحة في ميزان القوى أمراً وارداً، ينبغي على الطّرفين حينها التّوصل لتسويةٍ ما.
حسابات بروكروستية
خلال السّنوات الأخيرة اتخذ الحصار على قطاع غزّة -في شكله الأكثر تصفويةً وهيمنةً- مساراتٍ أكثرَ الحاقاً بالضّرر على غزّة. لم يعدْ الحصارُ مقولةً اقتصاديّةً فحسب، بل تحوّل -وعلى الدرجة ذاتها من الترتيب- عبر عقدٍ من الزمن إلى مقولةٍ أيديولوجيّة وسياسيّة وسيسيولوجيّة على حدٍ سواء. أُغلِق مجالُ غزّة الحيويّ سياسياً واقتصادياً، وباتت الحاجةُ للعمل على إخضاعها للمزيد من السّياسات والإجراءات بهدف ترويضها وخنق التّجربة أكثرَ إلحاحاً.
وإذا كان ثمةّ تشابهٌ بين ضحية أسطورة الميثولوجيا اليونانيّة بروكرست وغزّة، فهو أنّ غزّة، اليوم، مسدولة على سرير اشتراطات النظام التقليديّ العربيّ، يبدو ذلك حينما يتعلق الأمر بالتأسيس لتحالفٍ عربيّ-إسرائيليّ عيانيّ، يتشارك ذات المخاطر ويحرص على مآلاتٍ أمنيّةٍ وسياسيّةٍ أكثر استقراراً واتساقاً في المنطقة.
يُسوّغ هذا التحالف فكرة استئخار الاستقرار على أنّها مشكلة من مشكلاتٍ أمنيّة أوسع تواجه المنطقة، وأنّ طابعها البنيويّ أمنيٌ لا صلة عضويّة له برغبة ظهير سياسيّ في المنطقة كـ”إسرائيل” في بتر كلّ ما من شأنه أن يعتمل عصياناً خارج صف السّيطرة. إزاء هذا الواقع الغارق في عمومية الهزيمة العربيّة، فإنّ المهمة الأساسية التي تؤكد عليها تجاربُ “العصيان” هي الحفاظ على رأس التّجربة ما دون البتر، على حدود أبعاد الإذعان والهجوع.
إذا كانت الطريقة التي تستخدم فيها المؤسسة العسكريّّة الإسرائيليّة العنفَ تُرَكَّبُ وفق الظروف الاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة لدولة الاحتلال، والتي لا تمكّنها من الذهاب لحرب تقليديّة طويلة مع غزّة، وعلى الأرجح لن تُعيد تكرار تجربة احتلال قطاع غزّة، فإنّ الحصار كاستخدامٍ مختلفٍ للقوّة؛ في تحويل الحرب لكلفةٍ باهظةٍ، يبدو كخيار عسكريّّ ضدّ غزةّ أكثرَ تفوقاً من الغزو والاحتلال. ومع اشتداد وطأة الحصار سيظلُّ مُتَسبِّبَاً بالمزيد من الدّمار العامّ، والذي بدورِهِ سيزيدُ من معاناة ومصاعب الظّرف الذي تترتب وفق حيّزه ومجالاته بُنى المقاومةِ وتكتيكاتُها.
رياضيات: تعليق القتال
مؤخراً، انصبّ الجهدُ العسكريّ لجيش الاحتلال الإسرائيليّ في الجبهة الجنوبيّة على العامل الاستخباراتيّ وتحصيل المعلومات، لكنّ جهوداً استباقيّةً للمقاومة في غزّة لا زالت تُضعِفُ التصاقه ببنيتها، أو تُضعف اتصاله بها عبر قنواته المتعاوِنَة. لذلك فإنّ عملاً حربيّاً يشبه الاستطلاع بالقوّة، تنفّذه قواتٌ متخصصةٌ في جيش الاحتلال داخل حدود قطاع غزّة، وهي تستطلع تحديداً شبكات الاتصالات الداخليّة للمقاومة، التي ما زالت مستمرة.
من وجهة نظر المؤسسة العسكريّة الإٍسرائيليّة هناك سياقان رائزان يسير وفق تفاعلاتهما جهدُ الاستطلاع خلال هذه الفترة، الأول؛ يتمثل في التفاهم فكريّاً ومن حيث المؤسسات مع ما يبدو تكتيكاً قتاليّاً آخذاً بالتطور لدى المقاومة الفلسطينيّة، والثاني؛ وهو كنتيجة متصلة بالسّياق الأول، يُعيد حساباتِ الإحاطة بالموقف بطريقة تستوعب التكتيك، ومن ثم تُركّز حدّ قوّة الجيش دفاعيّاً وهجوميّاً لضرب أسسه وتدمير ميكانيزماته، وإن كان عبر ضربات جراحيّة ينفّذها سلاحُ المدفعية ومقاتلاتُ سلاح الطيران.
يظلُّ الاستطلاع كجزءٍ من كلّ أعمال الحرب ما عدا القتال، تأكيداً على تعليق الحرب، وهو فترة دالّة على تقطّع وتباطؤ سير العمل الحربيّ، ويعني فيما يعنيه، أنّ الموقف الوحيد الذي يعرفه كليّاً قائدٌ عسكريٌّ إسرائيليٌّ على الجبهة الجنوبيّة هو موقف قواته الخاصّ، وما عدا ذلك، يبقى معتمدأً على تقديرات استخباراتيّة غير دقيقة. وهذا سببٌ كافٍ يدفع لإعادة حسابات الاحتمالات والتقديرات على ضوء حيثيات الظرف وخصائصه. إعادة الحسابات تعني بالأساس، حسابات تنسخ هامش الحسم في قرار المعركة وتصادر عامل المبادأة الإسرائيليّ.
على معسكر حربيّ آخر، تبدو الأمور أكثر تعقيداً. في حساب احتمالات الحرب، حين تتعرض لضغوط وتأثيرات اجتماعيّة واقتصاديّة، فإنّها تنعكس بدورها الضاغط والتهشيمي على بنى مجتمعيّة منهكة رازحة لسنوات تحت وطأة الحصار.
فيما يظل خيار كتعليق القتال رغبة يتشاركها الطرفان، فإنّ هامشاً يُؤسس له، يعزز موقفاً موضوعيًاً أكثر انسجاماً مع مصلحة المقاومة كاستراتيجية والمجتمع في غزة كبنى. هذا الموقف لاحقاً، وعبر إتاحة زمنيّة، سيمكّن من إعادة ترتيب أولويات المواجهة ومعايرتها، بعدما سعى الحصار وعبر آليات مصمّمة ومحاولات منظمة دفع تجربة المقاومة للمحاكمة شعبيّاً وفقدان الحاضنة الشّعبيّة، وعبر تجزئة تاريخية للتجربة، دعم انبثاق توجهاتٍ رفضاوية لها، متسلحة بدعم مظهري للظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة المفوتة والمهشمة التي تمرّ بها غزّة، والتي صاغها أصلاً حصارُ التجربة لا التجربة ذاتها. خيار التهدئة سيعزز فرصة، لا إمكانية لتجاوز الحصار، بل للتخفيف من قبضته وآلياته، وتفويت الفرصة على أية محاولة إسرائيليّة لمعاكسة الجهد الشّعبيّ في غزة وإزاحته للانفجار في وجه المقاومة كخيار أو الصّدام الداميّ معها.
السُّبات الذي يلي حسم الحرب ويتحرر، وإن نسبياً، من ثقل قيودها، يلعب دوراً إذا لم يكن أهم من وقت القتال فهو على نفس الدرجة من الأهمية. خاضت المقاومة الفلسطينية ثلاث حروب قصيرة مع “إسرائيل”، وإنّ كان هنالك ما يصوغ قرار الحرب القادمة في كل مرة، ويؤسس لحيزها السّياسيّ، فهي فترة التعطّل ما بعد الحرب، تلك الفترة التي تؤسس للقدرة على استعادة قرار القتال مرة أخرى.
وإذا كان ثمة هدف بنيويّ عابر للحروب التي مرّت بها غزّة بالنسبة للجيش والسياسة الإٍسرائيليّة فهو التّدمير، ونقصد هنا، لا تدمير إرادة القتال أو قوّته، بل البنية التحتيّة لقرار القتال، أو بمعنى آخر، إرهاق الجهد الحربيّ عبر استنزافه في مسارات الهدر والكلفة العالية، ماديّاً ونفسيّاً. وعلى إثر ذلك، تتحوّل فترات التعطّل لمشاغلة متوالية على طول المدد الزمنية ما بين المعارك، وهذا الأثر تحديداً الذي تبحث عنه قذيفة “ما تحت أرضية” تطلقها مقاتلة حربيّة من السماء على أرض حدودية على أطراف غزة؛ أثر أن يُدمر نفق هجومي ويقتل وظيفيّاً، استغرق بناؤه سنوات وذابت في حمل معاوله أبدان، ثمّ تعود ذات المعاول المنهكة للحفر في سير آخر.
سبات ما بين الحربين، هو استمرار للحرب وإن بصورٍة أكثر دؤوباً واجتهاداً. كل تكتيك ميدانيّ فارق في الحرب سيتحوّل في حربٍ لاحقةٍ لتكتيك مفهوم، حتى مديات نيران المدفعية المحليّة ونطاقها يظلّ من أسرار الحرب إلى أن يلقمها مقاتل في قاذفها، فثمّة من يقاتل ضدّ غزّة في الحرب بقلم وورقة وحسابات ذكاء اصطناعي، يسجّل الإحصائيات ويروّض المديات لرياضيات. حينها ولمّا تهدأ الحرب، يتحول الابتكار لمعركة مفتوحة، ينبغي إعادة كسبها على الدوام، لا أقلّ من حمل السلاح ورمي الرصاص.
يسير الابتكار والتصميم وإعادة الترميم خلال فترات تعليق القتال بجهودٍ متوازية، وهي جهود ليست ذات قيمة إلا بتقاطعها وتخديمها على بنية وأداء قوّة القتال، فتصميم الأسلحة وتطوير إنتاجها ينبغي أن ترافقه بنيةٌ تحتيّةٌ استيعابيّةٌ لقدرته القصوى، لذا فعمليات حفر الأنفاق وإنشاء التحصينات مثلاً، وكما أنها في نموذج غزّة مزدوجة الأداء، لا تسير بمعزل عن خصائص القوّة الهجوميّة والدفاعيّة للمقاومة بل تواكبها، كما تواكب آلية التنقلات وكثافتها وعمليات إعادة ترميم القوات بعد الحرب، تقييم أداء التنظيم العسكريّ والقوة القتالية وإخلالتها في الحرب. إنّ مسألة تعليق القتال إطلاقاً، ليست مسألة مركّبة على وقف القتال وإنهائه، بل في البحث المكلف عن كيفية استمراره.
ما نختم به
لقد عَبَرَ الصّاروخ، صاروخ الـ”كورنيت” الذي استهدف الحافلة العسكريّة شرق جباليا، من ذات الطّريق الذي عبرته وحدةُ “السّهم الأسود” الإسرائيليّة، وهي وحدة قتاليّة تتبع للواء المظليين، تحرّكت في منتصف ليلة الرابع والعشرين من فبراير/ شباط 1055، وتسلّلت إلى وسط مدينة غزّة نحو بئر الصفا، ووزّعت جهدها القتاليّ ما بين استهداف مقرّ الحامية المصريّة وإحاطته بالرصاص والقنابل، وبين تصفية مجموعة من “حرس حدود فلسطين” عند وادي غزّة، كانت في طريقها من مدينة رفح لإسناد مقر الحامية في غزّة أثناء الهجوم. أسفرت العملية عن استشهاد 38 جنديّاً من الجيش المصريّ، ولا إصابات محقّقة في القوّة الإسرائيلية الخاصّة المتوغلة.
بعد ذلك، دَشَّنَ جيشُ الاحتلال الإسرائيلي نصب “السّهم الأسود” شرق جباليا تخليداً لذكرى العملية، والتي جاءت كردٍّ على محاولات غير منظّمة للعمل الفدائيّ الفلسطينيّ المُنطلق من غزّة نحو الأرض المحتلة. آنذاك، كانت النظرية الأمنيّة الإسرائيليّة تُنَـظِّـرُ لضرورة إعادة قوة الردع الإٍسرائيليّة لإحكام قبضتها على غزّة، وقتل أي محاولة لتنظيم العمل الفدائيّ في مهدها.
شكّلت عملية “السّهم الأسود”، بعد الصّدمة، جزءاً هامّاً من وعي المدينة العسكريّ. وفي صباح اليوم التّالي، خرجت جماهيرٌ غاضبةٌ في كلّ شوارع غزّة، ورفعت مناديلَ مبتلة بالدماء، وطالبت بضرورة تسليحها وتنظيم صفوفها في مواجهة “إسرائيل”. على إثر ذلك تشكّلت أنوية للعمل العسكريّ التنظيميّ، امتدّت وتبدّلت وتطوّرت إلى أن ظهر شريطٌ بالصورة الحيّة لصاروخ “كورنيت” مضادّ للدروع يخترق مركبةً إسرائيليّةً في محيط نصب “السّهم الأسود” على حدود غزّة ويُدَمِرُه.
هنا ملاحظات يُمكن الحديث حولها؛ الأولى تُشير إلى حقيقةٍ راسخةٍ في تاريخ تشكّل قوّة الردع المتبادل على حدود غزّة، والتي تؤكد اليوم، أنّ الزمن الذي كان يدشن فيه جيشُ الاحتلال نُصُبَه التّذكاريّة لتخليد عملياته ومعاركه الفارقة في غزّة قدّ ولى، وأنّ نُخبَةَ جنوده في غزّة إذا تجاوزت حدودها اليوم، فهي لم تعد معرضة لإصاباتٍ محققةٍ في صفوفها بقدر ما هي معرضة للخطف والمساومة. أما الثانية فتتعلق بالتراكم؛ أي أنّ بناء قوّة ردع المقاومة لم يتحقق عبر مزحةٍ ثقيلةٍ من التّاريخ، إنما جاءت عبر مراكمة جهود تاريخيّةٍ واستثنائيّةٍ بالحديد والنّار. والملاحظة الأخيرة، أنّ اللحظة الجزئيّة جداً من الزمن، والتي انبعج فيها صفيحُ الحافلة الفارغة حين التقى برأس صاروخ الـ”كورنيت” الترادفي، أي لحظة ما قبل الانفجار، توقيتها ودقّتها ومحاصرتها فيما بعد لخيارات رد جيش الاحتلال، هي دلالة أكثر دقّة على زخم خبرة المقاومة وتنامي وعيها للسقف الذي يُملّكها، لا التصرف خارج توقعات العدوّ فحسب، وإنّما معاقبته بالضرب على يده حينما يظنّ أن الخطأ مع غزّة وارد.
أن تكون قادراً على صناعة الهدوء، يعني أن تكون بالضرورة قادراً على صناعة الحرب، لأن الحرب وسيلةٌ جادّةٌ، للوصول إلى واقعٍ سياسيٍّ جادّ، وليست نزهة أو تسلية لتمضية الوقت. لكنّ الحرب، ولكي لا نغفل عن طبيعتها المتناقضة، مقامرة غير موضوعيّة، تحكُمُها وبشدّة عواملُ الصّدفة والحظّ. وأيُّ خطأ في حساب موقف الطّرف الآخر، هو مشروع لقرار حرب، وهذا ليس معناه أنّ الحديث حول الحرب كوجهة نظر تخضع للنقاش، هو احتكار على من يحملون السلاح ويعسكرون القطعات حصراً، بل لأنّ الحرب كممارسة في تجربة غزّة؛ في تجربة ثلاث حروب قصيرة المدى، لم تتخطى بعد، ذاتيّاً على الأقل، خبرة المشاركين فيها، الخبرة التي تصوغ أحكامهم بوضوح وتكوّن آراءهم الدقيقة والموضوعية حول الحرب والهدوء. الخبرة التي تهذب الحماس الأهوج واللامسؤول، كي لا يفضي إلى تقتيل عنيف ومرير في قوة القتال، والذي كان ممكناً، لو كانت حرباً يخوضها جيش كوندوتيري مدفوع أجره للقتال.
لكن جبهة غزّة، والتي تتواجه فيها أطراف عقائدية للقتال، هي حرب تخلو من تلاوين المساومة والقبول بالاستسلام، حرب يكون فيها الجندي والمواطن درجة واحدة، ويعني فقده أنّ أحداً لن يعود اليوم إلى وطنه، عائلته، وموقعه كربح صافٍ من أرباح الحرب. لذا فإن إرادة الهدوء والتي لا يقبع في قاعها هدوء إرادة ستظلّ إرادة مترنّحة في سائر أبعادها ووجوهها، ولن تعدو كونها مجرد وقود لمحرقة التجربة. وعلى النقيض، فالهدوء الذي يزعم أنّه اجترح موقفه من الحرب مرة واحدة وإلى الأبد، ذلك الهدوء الذي لا يبعث سكونه على قرار حرب، هو هزيمة مُرّة.