مقالات بحثية

زيارة الفصائل لموسكو.. مناورة روسيّة أم مسار استراتيجيّ جديد؟

في سابقة هي الأولى، بعد توليه رئاسة المكتب السّياسيّ لـحركة “حماس”، تلّقى إسماعيل هنية العام الماضي دعوةً رسميّةً من وزارة الخارجيّة الروسيّة لزيارة موسكو. حَمَلَ الدعوةَ سفيرُ جمهورية روسيا الاتحاديّة لدى دولة فلسطين، حيدر رشيد، وسلّم الدعوة مباشرةً لهنية، في لقائهما الأربعاء؛ 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.

يُذكَر أنّ التّواصل الدبلوماسيّ بين موسكو والحركة عاد يظهر للسطح بعد زيارةِ وفدٍ من حركة “حماس” بقيادة موسى أبو مرزوق موسكو، في مارس/ آذار 2018، التقى فيها أبو مرزوق وزيرَ الخارجيّةِ الروسيّ ومبعوثَ الرئيس الروسيّ الخاصّ إلى الشّرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف.

بعد مرور فترة وجيزة لم يزر فيها هنية موسكو، تحديداً مطلع يناير/ كانون الثاني 2019، أعلنت وكالة “سبوتنيك” أنّ 8 من قادة ومسؤولي الفصائل الفلسطينيّة سيصلون إلى موسكو في 15 يناير/ كانون الثاني، لإجراء مُحادثاتٍ “غير رسميّةٍ” بشأن استعادة الوحدة الوطنيّة.

مع الترتيبات الدبلوماسيّة، انطلقت المُحادثات “غير الرسميّة” في 11 فبراير/ شباط 2019، وبمشاركة 10 فصائل فلسطينيّة بدعوة من “مركز أبحاث تابع لوزارة الخارجيّة الروسيّة”، ما يشي بالمستوى المُنخفض للدعوة المُوجهة من موسكو للفصائل، على عكس الدعوة التي تم توجيهها لهنيّة.

بحسب مصدر دبلوماسيّ روسيّ، فإنّ الحوارات التي دعت إليها موسكو بين الفصائل الفلسطينيّة ترمي، بصورةٍ أساسيةٍ، إلى إيجاد أرضية جديّة لتقليص مساحة الخلافات، ومحاولة الخروج بنتائج تدعم الحوار الوطنيّ الداخليّ.

تخلل المحادثات لقاءُ الفصائل المُشاركة مع وزير الخارجيّة الروسيّ، سيرغي لافروف، في 12 فبراير/ شباط 2019، بينما انتهت المحادثات دون لقاء ثنائيٍّ جادّ بين حركتي “فتح” و”حماس”. اللافت أنّ هذه المحادثات تتزامن مع لقاءات بين مسؤولين من فصائل فلسطينيّة، لا سيّما هنية، وجهاز المُخابرات العامة المصريّة.

في نهاية اللقاء مع الفصائل، دعا وزير الخارجيّة لافروف حركتي “فتح” و”حماس” إلى إنهاء الانقسام على أساس اتفاق المصالحة الذي تم توقيعه في القاهرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، مُبيناً أن “إعادة توحيد الصف الفلسطينيّ قد تُسهم في توفير أوراق رابحة ضدّ تلك الأطراف التي تهدف لتدمير المرجعيّة الدوليّة المُعتمدة في الأمم المتحدة والمبادرة العربيّة للسلام”، مشيراً بذلك إلى مساعي تطبيق الخطّة الأميركية للتسوية في الشّرق الأوسط المعروفة باسم “صفقة القرن”.

هذا وقررت الفصائل الفلسطينيّة التي شاركت في الاجتماع، إلغاءَ بيانٍ ختاميٍّ مُشتركٍ متفق عليه في البداية وسحبَه من التداول. تعليقاً على ذلك، أشار عضو المكتب السّياسيّ في الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين، معتصم حمادة، إلى أن “هذا القرار جاء لعدم توافق الفصائل بشأن عدة نقاط فيه، على رأسها رفض ممثلي حركتي الجهاد الإسلامي و”حماس” لنقاط تتعلق بمسألة القدس، حيث طلبوا استخدام عبارة “دولة فلسطين عاصمتها القدس” من دون تحديد حدود عام 1967. كما اعترضوا على الحديث عن “حقّ العودة”، حيث اعتبروا ذلك اعترافاً ضمنيّاً بدولة “إسرائيل” في المضمون”.

يُذكر أن اللقاء في موسكو تخلل تصريح عزام الأحمد بأن “القضية الفلسطينيّة بحاجة إلى انتزاع ورقة الانقسام من أيدي الأميركيين”، مُلمحاً بذلك إلى منح موسكو فرصة لعب دور الوسيط. مع ذلك، لم يُثمر اللقاء عن أيّ إجراءٍ فعليٍّ في هذا الصدد. في السّياق ذاته، أكّد الأحمد أنّ “الاجتماع تم بالتنسيق مع القيادة المصريّة”، مبيناً أن “الاجتماع أخرج مسألة المصالحة من الجمود، وأن “فتح” تثق بدور القاهرة في تسوية النزاع”. بذلك يُشدّد الأحمد على أن موسكو لم تسحب ورقة المصالحة من القاهرة كما يُذاع.

من جهته، أشار رئيس مكتب العلاقات الدوليّة في حركة “حماس”، موسى أبو مرزوق، إلى أنّ أهمية اللقاء تكمن في تزامنه مع تحركات واشنطن لوضع خطّة سلام تُعرف إعلاميّاً بـ”صفقة القرن”، حيث “وافقت جميع الفصائل على ضرورة مواجهة هذه الخطّة”.

في ذات الإطار، قال الأمين العامّ لجبهة النضال الشّعبيّ الفلسطينيّ، أحمد مجدلاني، إن “لقاء موسكو يوّجه رسالةً هامّةً إلى المجتمعين في مؤتمر وارسو، أنّ الحلّ يكمن في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وليس ابتداع عدوّ آخر”.

أمّا عضو المكتب السياسيّ لحركة الجهاد الإسلاميّ، محمد الهندي، فقد علّق أنّ “حركته تدعم التوصل إلى استراتيجية وطنيّة شاملة جديدة للمضي قدماً في تحقيق تطلعات الفلسطينيّين والدفاع عن حقوقهم”، داعياً إلى إصلاح منظمة التحرير الفلسطينيّة، كي تنضم لها “حماس” والجهاد الإسلاميّ.

انطلاقاً من التصريحات الروسيّة الرسمية، فإنّ الزيارة تأتي في إطار سعي روسيا لدفع عجلة المصالحة، وإجراء مباحثات حول مستقبل عملية السّلام مع “إسرائيل”.

لكن يشوب الغموض الزيارة وتفاصيلها، ما يدفعنا إلى تصور بواعث وأهداف الزيارة على النحو التالي:

أولاً: المصالحة الفلسطينيّة-الفلسطينيّة:

جاء تلويح عزام الأحمد، مسبقاً، “باحتمال أن تكون موسكو بديلاً مُحتملاً عن القاهرة في رعاية عملية المُصالحة”، كإشارةٍ رجّحت احتمالَ قدوم الزيارة في هذا الإطار. في الحقيقة، يبدو أنّ تلويح الأحمد بذلك يأتي في إطار محاولته لإيجاد أداة ضغطٍ إعلاميّةٍ على القاهرة لعرقلة خروج هنية في جولته الدوليّة، أقرب للصواب. في هذا السّياق، يصعب أن تكون موسكو بديلاً عن القاهرة، وإنما يمكن أن تكون داعمةً لجهودها، انطلاقاً من عدة عوامل أهمّها:

  • التوكيل الأميركيّ الإسرائيليّ الملموس للقاهرة في رعاية عملية المصالحة.
  • مصالح الأطراف الفلسطينيّة “فتح” و”حماس” المترابط مع القاهرة جغرافيّاً وسياسيّاً وأمنيّاً، في ظلّ انعدام هذه الأوراق والمصالح لدى روسيا.
  • الترابط التّاريخيّ بين القاهرة وبين الملف الفلسطينيّ، والذي لا يُمكن أن تتجاوزه روسيا، والذي تُدرك الأطرافُ الفلسطينيّةُ أهميتَه.

وعليه، يبدو أن موسكو قد تضطلع بدور “المُيسر” أو “الداعم” لجهود المصالحة أكثر منها دور الوسيط. ولعل إجراء المحادثات بين الفصائل على نحوٍ غير رسميٍّ، وبدعوةٍ من مركز أبحاث تابعة لوزارة الخارجيّة الروسيّة لا يحمل أيّ صفةٍ دبلوماسيّة في القاموس الدوليّ، يوحيّان باقتصار السّعي الروسيّ، في ملف المصالحة، على توفير الأجواء الملائمة، والمُساهمة في “تسيير” عملية التوافق وليس رعايتها بالكامل.

ثانياً: المُساهمة في إقناع “حماس” بمسار المفاوضات مع “إسرائيل”، وبالتالي دعم مسار السّلطة الفلسطينيّة، وإظهار روسيا كبديل عن الولايات المُتحدة في “تسيير” عملية التّفاوض بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين:

باعتبار التّنافس التّاريخيّ بين واشنطن وموسكو، عند الحديث عن بديلٍ عن الولايات المتحدة في عملية السّلام، تخطر على البال للوهلة الأولى موسكو التي يُنظَرُ إليها على أنّها دولةٌ تسعى لمنافسة واشنطن، للوصول إلى تحقيق أهدافها في إعادة روح تعدد القطبيّة على السّاحة الدوليّة.

يُستند في هذا الطرح إلى توّجه موسكو للسياسة الخارجيّة القائم على نظرية جيوسياسيّة استراتيجيّة تُعرَف باسم “الأوراسيانية”. تلك الاستراتيجية التي تُشير إلى ضرورة “تكامل” روسيا مع أعمدة القوى البريّة الدوليّة والإقليميّة، لتُصبح قادرةً على مواجهة القوى البحريّة التي يقودها حلف “الناتو”، وتُصبح لها قدرة على الوصول إلى المياه الدافئة في أوراسيا التي تُعدّ قلب العالم، وبذلك يخرج للسطح ما يُسمى بـ “النظام العالمي الأوراسي الجديد“.

وفي ظلّ التوجه الروسيّ، في الوقت الحالي، نحو تثبيت أركان نفوذه بالاعتماد على بعض “أعمدة” الأقاليم الحيوية ذات الأهمية الجيوسياسية، لا سيّما حوض شرق البحر المتوسط وسوريا ومصر وليبيا، تُصبح روسيا أمام منافسة مُحتدمة مع القطب الغربيّ الذي يدعم “إسرائيل” التي لا ترى في موسكو دولة عُظمى، بل دولة كُبرى يمكن إخضاعها للتفاوض حول مصالحها، أي المصالح الإسرائيليّة، من خلال التلويح بالركون إلى الولايات المتحدة.

ولعل الدور الإسرائيليّ الواضح في سوريا، والذي أرغم، إن صح التعبير، موسكو على التنسيق معها، ومنحها الحريّة في استهداف القوات الإيرانية وقوات حزب الله في سوريا، خير دليل على مدى إدراك موسكو لأهمية الأمن الإسرائيليّ بالنسبة للولايات المتحدة.

وعليه، يبدو من الصعب توقع تأثير روسيا في هذا الملف على نحوٍ كبيرٍ، وبالتالي من الصعب توقع لقائها مع “حماس” في هذا الإطار، لا سيما أنّ روسيا تُدرك أن “إسرائيل” لا تُعير لدورها وثقلها الكثير من الأهمية، في ظلّ وجود الداعم الأميركيّ.

في المقابل، يبدو أنّ احتضان موسكو للقاءات يأتي في إطار إثبات ذاتها على السّاحة الدوليّة، من خلال التلميح لإمكانية لعبها أدواراً حيويّةً في أهمّ القضايا الفاعلة على السّاحة، حيث تُلَمّح لواشنطن بوجود مصالح لها في منطقة الشّرق الأوسط، وعليه لا بدّ أن تكون صفقة القرن في إطار ما يُراعي هذه المصالح. كما تزامنت هذه الاجتماعات مع عقد “مؤتمر وارسو” الذي يُتوقع أن يحمل بعض الإيضاحات حول الملامح الأوليّة لصفقة القرن، ويبدو أنّ موسكو أرادت أن تُذكّر واشنطن بأنها حاضرة بفاعلية في المنطقة.

لم يستطع الاتحاد السوفياتي تقديم رؤية تسوية تضغط على الطرفين الأميركيّ والإسرائيلي للقبول بها ولو جزئيّاً، وعليه يبدو أنّه من الصعب جداً على روسيا التي لا تساوي قوّتها الحالية القوّة التي كان عليها الاتحاد السوفياتي، تقديم خطة ناجعة للحل. تجدر الإشارة إلى أن روسيا ترى في “إسرائيل” دولة ذات سيادة، لذا فإنها ترى حقّ عودة الفلسطينيّين انتهاكاً للسيادة الإسرائيلية. كما أنها تقبل حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيّ، لكن على نحوٍ لا يهدد أمن “إسرائيل”، وانطلاقاً من هذه المعادلة، لم تُخالف مُعاهدة “أوسلو” التي تنافت مع القيمة المُتعارف عليها في القانون الدولي.

في ضوء ذلك، يبدو أن سيناريو استغلال الزيارة في الضّغط على “إسرائيل” أكثر رجوحاً مقارنةً بسيناريو تولي موسكو ملف التفاوض بضمّ “حماس” لها. لكن قبل ختام هذا الباب، لا يُمكن استبعاد محاولة موسكو تقريب وجهات النظر بين “حماس” والسّلطة، في ظلّ وجود علاقات جيّدة بينها وبين السّلطة.

ثالثاً: استغلال الزيارة في الضّغط على “إسرائيل”

بعد حادثة التّصعيد الأخيرة في قطاع غزّة، أعربت وزارة الخارجية الروسيّة عن قلق موسكو العميق إزاء تصعيد التّوتر في قطاع غزّة، مشيرةً إلى أن “إسرائيل” هي من خلقت حالة التّصعيد الحادّ للتوتر في قطاع غزّة، داعيةً لضرورة الرجوع لاتفاق 2014.

في الحقيقة، يُعدّ موقف الخارجيّة الروسيّة مستحدثاً نوعاً ما، حيث جاء في اليوم الأول للحدث، كما جاء بصيغة الاتهام لـ”إسرائيل”. ويبدو أن الباعث الأساسيّ لهذا الموقف هو وجود حالة خلافٍ بين الطّرفين في سوريا، بعد استهداف “إسرائيل” لمدينة اللاذقية التي لم تكن مرصودةً في إطار اتفاق الطّرفين المُبرم عام 2015.

أيضاً، يعكس الموقف خلافَ الطّرفين فيما يتعلق بالحراك الأمنيّ والجيوسياسيّ في حوض شرق البحر المتوسط، حيث تدعم روسيا حقّ لبنان في التنقيب عن الغاز الطبيعيّ في المناطق التي تعتبرُ “إسرائيل” أنّها تابعة لها، وتحاول، أي روسيا، زيادة نفوذها في حوض شرق البحر المتوسط على حساب القطب الغربيّ الذي يحتضن “إسرائيل”. ظهر تحرك “إسرائيل” الأوليّ ضدّ التوجه الروسيّ في الحوض، بعد استهداف “إسرائيل” لمدينة اللاذقية، بالتزامن مع اقتراب سفن تابعة للـ”ناتو”، وأخرى تابعة لفرنسا، من المياه الإقليمية لسوريا، ما عكس رسالةً إسرائيليّةً لروسيا مفادها: “سنقف إلى جانب القطب الغربيّ ضدّ طموحك”، وهو ما حدا، حسب ما يبدو، بروسيا إلى استغلال الحدث في قطاع غزّة، وإرسال رسالةٍ لـ”إسرائيل” مفادها: “سنستغل كل حدث لا يصبُّ في صالحك، في حال رفعتم لواء التحدي ضدّنا”.

أيضاً، كانت روسيا قد استخدمت أحداث قطاع غزّة لإحراج “إسرائيل”، في أبريل/نيسان المنصرم، حيث استهدفت “إسرائيل” بعض النقاط في حماة ودير الزور السّوريّتين، وكانت النقاط تهمُّ المصلحةَ الروسيّة، ما دفع روسيا إلى إدانة “العنف العشوائيّ” التي تقوم به “إسرائيل” ضدّ المتظاهرين سلمياً.

وعلى الأرجح، يمكن توقع أن جزءاً كبيراً من أهمية الزيارة يأتي في هذا الإطار الذي تهدف من خلاله روسيا إلى الضّغط على “إسرائيل” للقبول بالمعادلات التي تحاول روسيا طرحها في سوريا، ولو جزئيًاً.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق