سقوط النظام في المناقشات الدولية والإقليمية
مع انهيار نظام حزب البعث، سارت التغيرات في سوريا نحو مسارات مختلفة عن الوضع السابق، حيث تسير علاقات سوريا نحو تقييم علاقتها الخارجية، ما يثير السؤال: كيف تلقت الأطراف الفلسطينية، الإقليمية ؟ وطبيعة التصرفات الإسرائيلية. ويتناول هذا التقرير استجابة الجهات الفلسطينية والإقليمية تجاه المتغير السوري، كما يعرض لجانب من استيلاء الاحتلال على الأراضي السورية.
أولاً: التغير السياسي في سوريا وتداعياته على القضية الفلسطينية
شهدت الساحة السورية تغيراً مفاجئاً خلال الأسبوع المنصرم، تمثل بسقوط نظام بشار الأسد وسيطرة فصائل المعارضة السورية، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، وهو ما يعد تحولاً مؤثراً، يلقى بظلاله على التوازنات الإقليمية في ظل تراجع النفوذ الإيراني الإقليمي بعد فقدانه التأثير على الساحة السورية، في مقابل توسع ملحوظ للنفوذ التركي الداعم لفصائل المعارضة.
وتسعى الفصائل الفلسطينية إلى التكيف مع المكون السياسي الجديد في سوريا من خلال إبداء تصريحات مباركة ومتفائلة بدور سوريا الجديد تجاه القضية الفلسطينية. لذا سنتطرق في هذا الجزء من التقرير إلى مواقف أبرز الأطراف الفلسطينية تجاه المتغيرات الجديدة في الشأن السوري، وتداعيات ذلك على القضية الفلسطينية، وأبرز العوامل المؤثرة على صياغة توجهات سوريا الجديدة تجاه الملف الفلسطيني.
أبدت الأطراف الفلسطينية، على اختلاف توجهاتها ومستوى علاقاتها بنظام بشار الأسد ، ترحيباً ومباركةً للسوريين إزاء التغيرات السياسية الجديدة في سوريا التي نتج عنها سقوط نظام الأسد، مؤكدين على تطبعهم تجاوز التحديات الداخلية والاستمرار في دورٍ داعم للقضية الفلسطينية. بينما اكتفت حركة الجهاد الإسلامي على لسان أمينها العام زياد النخالة بالتأكيد على أن ما حدث من متغيرات هو شأن داخلي، مع دعوته إلى أن تبقى سوريا نصيراً للقضية الفلسطينية.
وتتوافق مواقف الفصائل الفلسطينية المتواجدة في سوريا، بيانٍ مشترك، على أن المتغيرات السورية هي شأن داخلي يرتبط بخيارات الشعب السوري، مما يعكس التزامها بموقف محايدٍ حذر، وقد يرجع ذلك إلى طبيعة العلاقة المستمرة بـ إيران لدى العديد من هذه الفصائل، بما فيها حركة الجهاد الإسلامي، إذ أن هذا التغيير أنهى النفوذ الإيراني في المنطقة، فأي ترحيب مبالغ فيه لهذه الفصائل قد يحلق ضرراً في علاقتها بـ إيران.
وعلى النقيض من حركة حماس، فإن حركة الجهاد الإسلامي تعاني من وضعٍ حسّاس، فهي استمرت في الحفاظ على علاقات قوية مع نظام بشار الأسد طيلة فترة الثورة السورية، على اعتبار الشأن السوري داخلي لا علاقة للفلسطينيين به، وهو ما قد يضع حركة الجهاد في تحدٍ صعب مقارنة بباقي المكونات الفصائلية الفلسطينية، التي كانت – إلى حدٍ ما – تحافظ على موقفٍ داعم للثورة السورية، مما يوفّر لها المرونة السلوكية تجاه المتغير السوري الجديد.
تداعيات التغيير على المستوى الفلسطيني
لم تُظهر بعد، أي من فصائل المعارضة المكونة للحكومة السورية المؤقتة وإدارة العمليات العسكرية التي يرأسها أحمد الشرع مواقفاً واضحةً تجاه قضايا المنطقة، بما فيها القضية الفلسطينية، وإنما تحافظ على توجه عملي يركّز على إعادة بناء سوريا ، كما يظهر من تصريحات قياداتها، بسبب رغبتهم في تبديد مخاوف القوى الاقليمية والدولية بشأن المرحلة المقبلة لتجنب أيَ صدامٍ معها من شأنه تعطيل العملية السياسية الناشئة. لذا من المتوقع أن تتخذ الإدارة الجديدة مساراً أكثر حيادية تجاه القضية الفلسطينية مع التركيز على القضايا الداخلية.
تلعب الإجراءات التي تتخذها حالياً إدارة العمليات العسكرية في الحكومة المؤقتة تجاه الفصائل الفلسطينية المسلحة المتواجدة في سوريا مؤشّراً عملّياً على طبيعة المقاربة الجديدة تجاه القضية الفلسطينية، إذ أكد أحمد الشرع أنه سيتم نزع سلاح الفصائل الفلسطينية كافةً، مشيراً إلى أن بناء الدولة الجديدة هو أولى الأولويات في المرحلة المقبلة. فيما أبلغت إدارته في لقاءٍ عُقدته مع الفصائل الفلسطينية في سوريا -دون وجود ممثلين عن حركتي حماس وفتح- تسليم كافة القواعد العسكرية لها خارج المخيمات الفلسطينية مع الاكتفاء بمكاتب عملٍ تحتفظ بأسلحة فردية، يجري ترتيبها وضعها القانوني لاحقاً.
أما بالنسبة للفصائل الفلسطينية التي كانت تربطها علاقات قوية بنظام بشار الأسد مثل الجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية، قد تواجه تحديات كبيرة تعيق تأقلمها مع المتغير الجديد في سوريا، خاصةً وأن الإدارة الجديدة قد لا تكون متحمسة من التعاطي ايجابياً مع مثل هذه الفصائل، وهو ما يتقاطع مع ما أكدته إدارة العمليات العسكرية خلال لقاءها بالفصائل حول أن المرحلة المقبلة لن تشهد خصوصية لأي فصيل لدى الدولة السورية الجديدة.
وبخلاف ذلك، قد يسعى النظام الجديد بشكلٍ غير مُعلن إلى توفير بيئة نشطة لدعم بعض الفصائل الفلسطينية في الفترة المقبلة، خاصةً وأن المرحلة بحاجة إلى دعم هذه الفصائل في ترتيب الوضع السياسي والمجتمعي للمكون الفلسطيني في المخيمات المتواجدة في سوريا. لذا قد نشهد حضوراً ملحوظاً لبعض هذه الفصائل على الساحة السورية، لكن ضمن تحرك سياسي ومجتمعي خدماتي بعيداً عن أي نشاطٍ عسكري، بهدف الحفاظ على معادلة إبقاء سوريا الجديدة بعيدة عن أي تهديدٍ خارجي من قبل دول الغرب أو الولايات المتحدة من شأنه أن يعرقل جهود بناء الدولة.
ومن جانبٍ أخر، قد تشهد الساحة السورية في المرحلة المقبلة تنافساً واضحاً بين السلطة الفلسطينية ممثلةً بفتح وباقي الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، في ملف تعزيز النفوذ السياسي والمجتمعي في المخيمات الفلسطينية من جديد، التي تشكّل غطاءً مهماً للنفوذ الفصائلي في سوريا منذ فترةٍ طويلة. علاوةً على أن الحاجة المُلّحة لفلسطينيّ سوريا في إعادة تأهيل مخيماتهم عمرانياً واجتماعياً قد تسّرع من هذا التنافس الفصائلي مبكراً.
ويمكن الأخذ في الاعتبار احتمال أن تبلور العلاقة ما بين النظام الجديد وبعض الفصائل الفلسطينية، قد يأخذ وقتاً طويلاً، لأن التواجد المبكر على الساحة السورية قبل تعزيز سيطرة النظام الجديد على كل مفاصل الدولة، بما فيها كافة مجالات الأمن الاقليمي، لن يعرّض الإدارة الجديدة للعقوبات الدولية فحسب، بل سيجعل قيادات العمل الوطني الفلسطيني عرضةً للاغتيال الإسرائيلي. لذا من المتوقع أن تتريث الفصائل الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، حتى تُحكم حكومة سوريا الجديدة سيطرتها سياسياً وجغرافياً، وهو ما سيأخذ وقتاً طويلاً في ظل التركيز على ترتيب الأوضاع الداخلية السورية من جانب، واستمرار العمل العسكري الميداني الاسرائيلي على جبهات عدة من جانب أخر.
يحمل المشهد السوري الجديد في طياته تحديات وفرصاً كبيرة للفصائل الفلسطينية في المرحلة المقبلة، مما يتطلب من الأخيرة التعامل المرن والحذر، بما لا يتعارض مع أولويات الإدارة السورية الجديدة التي تسعى إلى البقاء بمنأى عن أي صدامات إقليمية قد تعيد حالة الفوضى. ومن جانبٍ أخر، يُتوقع دورٌ تركي فعّال في صياغة المشهد السياسي الجديد في سوريا بشكلٍ متوازن، بما فيه التأثير المباشر على طبيعة العلاقات مع الفصائل الفلسطينية وتوجهاتها المستقبلية، مما قد يزيد من فرص بعض الفصائل مثل حماس في استعادة التواجد على الساحة السورية في المرحلة المقبلة، خصوصاً إذا ما استطاعت دمشق الجديدة تحقيق استقرار داخلي يتيح لها التفرغ لدعم وإدارة مثل هذه التحركات.
ثانياً: سوريا في المواقف الإقليمية
مع هروب بشا الأسد، نشأت حالة فراغ أمني وسياسي، سواء نتيجة غموض تصرفات الجيش العربي أو القلق من القادمين للسلطة، وتحت مسارات إعلامية متعددة المشارب، كان هدفها الترويج للخلاف ما بين الدول الإقليمية، فقد ولذلك، فإنه من الأهمية متابعة كيف تعاملت دول الجوار وتلك العربية مع هذه التداعيات ونظرتها لمستقبل سوريا.
في الشهور الأخيرة، بدأـ الجامعة العربية وتركيا في فتح مسار لتنيس الأزمة في سوريا، بحيث تكون عبر حل سياسي متفاوض عليه، لكنه رغم محاولات تسوية الأزمة السورية وفق القرار 2254، وقف النظام السوري عند رفض المقترحات التركية والعربية بتسوية مع المعارضة، لينتهي به الحال لمواجهة هجوم الجماعات المسلحة في إدلب والجيش الوطني الحر، وتخلي حليفيه؛ روسيا وإيران عن مساندته.
ساهم تصلب الأسد وتشجيع حلفاءه على التمسك بالسلطة في القبول بإسقاط النظام السوري كحل أخير، باعتباره أخر الحلول، بعد فشل مسار أستانا ورفض محاولات تركيا لإقامة محادثات مباشرة لتسوية الخلافات بين البلدين. وفي هذا السياق، بدت مواقف السعودية، مصر وتركيا متقاربة في تفهم تحركات فصائل المسلحين نحو إسقاط النظام السوري ومتابعة تصرفاتها.
وقد نظرت دول الجوار وبعض الدول الأخرى للوضع في سوريا كحالة فراغ في السلطة، لكنها تواجه حالة من عدم اليقين في استقرار سوريا، نظراً لغياب الجهة التي يمكنها الحسم السلمي أو صياغة التصورات حول مستقبل سوريا. ولذلك، اكتفت، في المرحلة الأولى، بالتأكيد على خيارات الشعب واحترام إرادته، بالإضافة لرفض التدخل الخارجي، وهي شروط ضرورية لتقليل مستوى الاشتباك المسلح أو الدخول في حرب أهلية.
كانت هذه السمات المشتركة فيما بينها، لكنه ظهرت اختلافات قليلة، حول واقع المسلحين والمنظمات المصنفة إرهابية في الوضع السياسي الجديد وتأثيره على الموقف الإقليمي من التغيرات في سوريا. ولاعتبارات التهديد المباشر، كان تركيا الأكثر انخراطاً في العمليات العسكرية والسياسية، منذ عشر سنوات، ومع اندلاع زحف الفصائل نحو دمشق، كانت السياسة التركية على التداخل مع المشهد العسكري والسياسي، بحيث تزيد من فرصة قربها من الأحداث والتأثير فيها. وبشكل قريب، اتخذت السعودية موقفاً مشابها، عندما قبلت بوجود المعارضة بديلة عن نظام الأسد، وأبدت ارتياحاً لسلامة الشعب السوري وحقن الدماء والحفاظ على مؤسسات الدولة السورية ومقدراتها، وعدم التدخل في شؤونها، وكان ذلك رداً على تعنت مواقفه بعد إعادته لمقعد سوريا في الجامعة العربية وخضوعه التام للسياسة الإيرانية.
كان الموقف المصري مختلفاً، لحد ما، عن الموقفين السابقين، فلم يكن لمصر مشكلة في إسقاط بشار الأسد، لكنه اعتنت بأمرين؛ دور الجماعات المسلحة في السلطة الجديدة واحتواء التداعيات حتى لا تسبب تهديداً إقليمياً، بالإضافة للحفاظ على سلامة الإقليم السوري. يعمل هذا المناخ على وجود أرضية للتنسيق المباشر مع تركيا والسعودية، بحيث يتكون مطبخ إقليمي لرعاية انتقال سلس في سوريا.
وعلى نحو مخالف، انشغلت إيران بإنقاذ النظام السوري، ولم تُقدم ضمانات كافية لحل الأزمة، بل أعلنت مواقف متكررة بعد السمح بسقوط النظام السوري، وكان واضحاً في موقفها مع استمرار وصول المعارضة لمزيد من الأراضي والمحافظات حتى دمشق، أن ركزت إيران على الانتقاد المباشر لسياسة تركيا، ووصفتها بغير الواعية والتابعة لأمريكا وإسرائيل، ما يشير لوجود قدر من العداء والرفض لما شهدته سوريا وتصنيف تركيا كسبب مباشر فيما حدث.
وفي هذا السياق، تكون الاتصالات الديبلوماسية مع القائمين على الوضع في دمشق لتأكيد استمرار الدولة السورية، وليس الاعتراف بأمر واقع. في كل التصريحات، هناك توافق على بدء مرحلة انتقالية، يشارك فيها كل الفصائل، وتكون أكثر تمثيلاً للشعب، وفي ظل هذا المعيار، يكون إعادة فتح السفارات بمثابة تأكيد الاعتراف بالدولة وفق الحدود الرسمية، وأن الاجتماعات مع بعض الفصائل في دمشق أو “الحكومة المؤقتة” في الشمال، هي من قبيل الاجتماع بمكونات سورية، يمكن أن تساهم لاحقاً في دعم المرحلة الانتقالية.
مهدت هذه الوضعية، للتفكير في إطار إقليمي، ليكون مقدمة التعامل الدولي على الوضع في سوريا. وفي هذا السياق، انعقد اجتماع للجنة الاتصال الوزارية العربية حول سوريا، لتكون الإطار الجماعي الإقليمي لتنسيق السياسات ومراقبة العملية الانتقالية واعتداء الاحتلال على السيادة السورية.
يحوي تشكيل لجنة الاتصال رسالة مهمة حول المساحة المشتركة بين الدول الإقليمية على مستويي المصالح ومواجهة التهديد الخارجي. فبجانب مصر، السعودية، الإمارات والأردن والعراق وغيرها من الدول العربية، هي تمثل الاهتمام العربي بتداعيات الأزمة في سوريا. كما يمثل حضور تركيا عن استكمال دائرة الأمن الإقليمي، بحيث تكون دول الجوار في نطاق التفاعل المباشر مع الأحداث اليومية والمستقبلية.
وبالإضافة لحضور الولايات المتحدة ودول أوربية، تكتسب هذه اللجنة صلاحية التعامل الدولي على الملف السوري. فكما تكون هذه اللجنة سابقة إقليمية، فهي توجه لمء الفراغ ما بعد سقوط الحكومة السورية، ولذلك، كانت دعوتها لتشكيل بعثة دولية للإشراف على المرحلة الانتقالية حسب القرار 2254، توجهاً لزيادة الالتحام السياسي مع التداعيات السياسية، فإنها توضح تقارب الاستجابة الإقليمية للتحديات الطارئة.
ووفق بيان لجنة الاتصال في 14 ديسمبر 2024، دعت لجنة الاتصال لاحترام إرادة السعب السوري والمشاركة الجماعية في دعم الانتقال السلمي في سوريا في إطار مرحلة انتقالية تشمل الجميع، ليكون الحل على أساس القرار 2254، كما تناول البيان الختامي ضمانات نجاح المرحلة القادمة، وكان أهمها، مكافحة الإرهاب، ضبط السلاح، عودة اللاجئين، دعم سيادة سوريا ضد الاختراقات الإسرائيلية، وهي الخطوة الأولى لملء الفراغ الأمني الناتج عن هروب الأسد وظهور الجماعات المسلحة، فقد صرحت تركيا بأن تمادي الاحتلال في العدوان، سيواجه برد، كما كان عمل الموقف المصري على تغطية الفراغ السوري بالتقدم بشكوى لمجلس الأمن والتحذير من تجاوز اتفاقات فض الاشتباك (1974)، ومن ثم، تمثل نتائج اجتماع العقبة محاولة للعمل الجماعي ضد التهديد المشترك.
ثالثاً: المقاربة الاسرائيلية للوضع السوري الجديد
شكلت الأحداث المتسارعة في سوريا تحولاً مهماً على مستوى الداخل السوري والاقليم والعالم، خاصةً وأن كافة العمليات العسكرية، والمحاولات السلمية التي استمرت لنحو 13 عاماً كان مصيرها الفشل والمزيد من الدمار والتقسيم الطائفي والعرقي، والتدخل العسكري الاقليمي والدولي في سوريا. واللافت هنا، أن تحرير مدينة حلب أو بمعنى أدق تسليمها للجماعات الثورية المدعومة إقليمياً ودولياً وما تبع ذلك من انهيار لنظام بشار، جاء بعد ساعات قليلة على توقيع حزب الله اللبناني اتفاق وقف إطلاق النار مع الاحتلال الاسرائيلي، وهو ما استدعى العودة الى حديث بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة اليمينية بشأن الشرق الأوسط الجديد، وما يصاحب ذلك من طموحات إسرائيلية تاريخية لتوسيع مساحة إسرائيل على حساب دول الجوار العربية، وهيمنتها الامنية على الاقليم.
تحرك عسكري إسرائيلي
استغلت دولة الاحتلال المتغير الجديد في سوريا وعدم استقرار الوضع الداخلي لبدء عملية عسكرية متزامنة للسيطرة على أراضٍ في الجولان السوري، عدا عن استهداف المقدرات السورية العسكرية مثل المواقع العسكرية والمطارات الحربية ومخازن الأسلحة الاستراتيجية، بحجة خوفها من وقوعها بأيدي فصائل المعارضة السورية ذات التواجه الإسلامي، مما قد يشكّل تهديداً أمنياً عليه
وأرجعت غالبية التحليلات التحرك العسكري الاسرائيلي نحو جبل الشيخ، والسيطرة العسكرية على مقربة من دمشق، وتدمير كافة المقدرات العسكرية السورية، وكذلك تدمير المعامل والمؤسسات السورية الحساسة، إلى تخوف إسرائيل من وصول زعيم هيئة تحرير الشام ومؤسس تنظيم داعش في سوريا أبو محمد الجولاني الذي يُقدم إعلامياً بمسمى أحمد الشرع، وما لذلك من تهديد مباشر على الحدود الاسرائيلية مع سوريا.
ولم يكن هناك تعليق على تجاهل الأطراف الثورية السورية لذلك التدخل والضربات العسكرية الاسرائيلية، كما لم يعلق أحد على ترك القوى الثورية للمواقع العسكرية والمؤسسات ذات العلاقة فارغة، وهو عكس المنطق المعروف، لأن الثورات أو حتى الانقلابات العسكرية تبدأ من السيطرة على مؤسسات الدولة بما فها العسكرية، وهو ما لم يحدث في سوريا، فقد ركزت قوى الثورة على الميادين والأسواق والسجون والقصور الرئاسية وغيرها، وتركت كافة المؤسسات العسكرية ومعسكرات الجيش والمطارات العسكرية للقصف الاسرائيلي، ما يؤكد على أن إسرائيل جزءً مهماً من عملية تسلم الحكم في سوريا.
وبالرغم من تململ الجيش الاسرائيلي بسبب الحرب على غزة، والجبهة اللبنانية، وحالة الإرهاق التي ظهرت خلال الأشهر الأخيرة، إلا أن تصريحات كاتس وزير الدفاع الاسرائيلي في 12 ديسمبر 2024 بشأن بقاء الجيش الاسرائيلي في جبل الشيخ حتى الشتاء المُقبل لم تواجه بأي اعتراض من داخل المؤسسة العسكرية أو من خارجها، خاصةً وأن التحرك العسكري الإسرائيلي داخل الأراضي السورية لم يتعرض لأي مواجهة أو حتى تنديد سوري رسمي.
إسرائيل كجزء من مستقبل سوريا
بالرغم من سكوت إسرائيل عن خطوة التخلص من نظام بشار الأسد ضمنياً، ومباركة تلك الخطوة التي تقلص من الدور الايراني في المنطقة، إلا القيادة السياسية لا تُخفي تخوفها من سيطرة تنظيم القاعدة المٌعدل على الحكم في سوريا، ومن جانبه يُوصي نتنياهو ووزراءه، وأعضاء حزب الليكود بعدم التعليق على التطورات الجارية في سوريا، لأن إسرائيل بشكل عام لم تعد بعد السابع من أكتوبر 2024 مهتمة ببقاء نظام بشار من عدمه، فقبل هجمات السابع من أكتوبر كان نظام بشار بمثابة فرصة مناسبة لإسرائيل التي تنسق مع الجانب الروسي بين الحين والأخر لضرب أهداف عسكرية في سوريا دون أي اعتراض من نظام بشار.
بعد 7 أكتوبر لم يعد وضع نظام الحكم في سوريا مهماً بالنسبة لإسرائيل لأنها تغيرت في تعاملها مع الإقليم، وباتت تعتمد على الضربات العسكرية بغض النظر عن النتائج السياسية، ورغم أنها تدرك صعوبة استخدام السلاح السوري ضدها، لأسباب لها علاقة بضعف هذا السلاح، وصعوبة تكرار 7 أكتوبر من الجولان أو شمال إسرائيل، إلا أن العقلية الاسرائيلية باتت تستغل هذه المخاوف للقضاء على أي مخاطر مهما كان حجمها.
لذلك حتى سيطرتها على جبل الشيخ والتوغل البري في الاراضي السورية ليس له دوافع أمنية بقدر ما أن الاحتلال الاسرائيلي يحاول أن يكون عنصراً مهماً في تحديد مستقبل سوريا، لهذا جاءت تصريحات عميحاي شيكلي وزير الشتات ومعاداة السامية في حكومة نتنياهو لتؤكد على أهمية تزايد قوة الأكراد واتساع سيطرتهم في شمال شرق الدولة السورية، وكانت اتصالات وزير الخارجية الاسرائيلي جدعون ساعر مع نظيرة الفرنسي قد ركزت على حماية الأقليات في سوريا دون توضيح كيفية حمايتهم.
لكن اللافت في هذا الشأن، تصريحات ساعر الذي أكد خلالها على أن التفكير في دولة سورية واحدة مع سيطرة فعّالة وسيادة على كل مساحتها أمر غير واقعي، معتبراً أن المنطق هو السعي لحكم ذاتي للأقليات في سوريا وربما مع حكم فدرالي على حد وصفه. لكن بشكل عام لا تخفي الأطراف الاسرائيلية تخوفها من قوات الثورة السورية وخلفياتها المنبثقة عن تنظيم القاعدة.
فرصة للتطبيع
تعتبر الأوساط السياسية في إسرائيل أن تراجع الدور الإيراني في سوريا ولبنان بمثابة فرصة لتطبيع علاقاتها مع الاقليم، والعربية السعودية على وجه الخصوص، حيث يقول يائير لبيد زعيم المعارضة الاسرائيلية، يمكن استغلال الأحداث في سوريا لتشكيل تحالف إقليمي قوي مع السعودية ودول اتفاقيات إبراهام، من أجل مواجهة انعدام الاستقرار الإقليمي، لأن ضعف المحور الايراني يساعد إسرائيل على إنجاز سياسي شامل في غزة والضفة الغربية.
لهذا تصب تصريحات ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا في ذات السياق الذي يشير إليه لبيد، داعياً إلى عدم تفويت الفرصة، وتوجيه الاهتمام نحو إيران التي هددت برفع مستوى تخصيب اليورانيوم والاقتراب من الوصول للقنبلة النووية التي تهدد إسرائيل والشرق الأوسط عموماً، فتصريحات ليبرمان تلك، تعزز من استئناف لقاءات التطبيع، وفي الوقت ذاته يمكن فهمها في إطار الضغط على حكومة نتنياهو من أجل دفعها لتوقيع اتفاق أمني أو سياسي مع قطاع غزة، خاصةً وأن أحداث السابع من أكتوبر كان لها تأثير سلبي على استمرار خطوات التطبيع.
يتفق نتنياهو بشكل كبير مع المعارضة الاسرائيلية، لأنه لا يخفي رغبته في إقامة علاقات طبيعية مع النظام السوري الجديد، بشرط إستبعاد أي وجود إيراني في سوريا، معتبراً الوجود الإيراني أو السلاح الايراني في سوريا سيكلف النظام السوري الجديد ثمناً باهضاً، لأن قواته العسكرية لن تتردد في إتخاذ ما يلزم لضمان أمنها.
تركيا ليست بعيدة
لقد أظهرت التصريحات الاسرائيلية تركيزاً خاصاً على إيران ودورها السابق في سوريا، في الوقت ذاته باتت تعتبر التراجع الايراني بمثابة فرصة مناسبة للتعاون مع النظام السوري الجديد، والاقليم العربي بشكل عام، غير أن بعض التصريحات والتقارير الاعلامية الاسرائيلية لم تتجاهل الدور التركي في سوريا، حيث يقول يعقوب عميدرور جنرال متقاعد ومستشار سابق للأمن القومي الاسرائيلي، أن الجانب التركي لعب دوراً مهماً في تنظيم وتدريب قوات الثورة السورية ذات النظرة الاسلامية التي تتناسب مع رؤية الحكومة التركية الحالية والنظرة العثمانية السابقة، حيث تعتقد تركيا أن وجود القوى السورية الحالية في الحكم بمثابة توسيع لنفوذها الذي ظهر في المنطقة خلال العقد الأخير سواءً في قطر أو الصومال أو ليبيا، والآن سوريا، ولذا، سيؤدي أي احتكاك للتنظيمات السورية الحالية مع إسرائيل يعني مواجهة مع تركيا التي تعادي إسرائيل بشدة، كما أن تعزيز الوجود التركي في سوريا سيعطيها القدرة على إيذاء الاكراد الذي تعتبرهم كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية حلفاءً لها في سوريا، وهذا ما يضع الإدارة الأمريكية الجديدة أمام قرار صعب بين التخلي عن الأكراد وإضعاف موقف الولايات المتحدة في المنطقة.