سيناريوهات العملية العسكرية “الإسرائيلية” ضد غزة
تردد خلال الشهر المنصرم، وعبر مراقبين عدة من أوساط المقاومة، تحذيرات باحتمال شن عدوان “إسرائيلي”، لضرب أهداف وفق منطق عملياتي “استباقي”؛ والمقصود أن الهجوم سيضرب مكمن ما تزعم “إسرائيل” بأنه خطراً موجهاً لها. وبدأت العملية “الإسرائيلية” اليوم فعلاً، حيث أقدم الاحتلال على اغتيال أحد أبرز قادة المقاومة في سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي “تيسير الجعبري”، إضافة إلى استشهاد ٧ فلسطينيين بينهم طفل وعشرات الإصابات بين المدنيين. وإثر عملية الإغتيال كان هناك ردة فعل فورية من المقاومة في غزة باسم الغرفة المشترك، حيث قامت بقصف مدن “إسرائيلية” في غلاف قطاع غزة وصولاً إلى مدن وسط “إسرائيل” وتحديداً في منطقة غوش دان التي تضم “تل أبيب”. وتجاوزت الصواريخ التي أعلنت عن إطلاقها المقاومة ١٠٠ صاروخ ادعت قوات الاحتلال أنّ منظومة “القبة الحديدية” تصدّت الى ٣٣ منها بينما أخفقت في صدّ ٤٦ صاروخاً.
سننطلق من بديهة أن الاحتلال لا يوفر فرصة متاحة للعدوان على قطاع غزة، وأن هذه الحقيقة معلومة من قبل المقاومة ما يجعلها تنازع الاحتلال على قرار المبادأة بـ”الحرب”، فتبذل جهدها لاتخاذه في الوقت المناسب للقضية الفلسطينية والمضر بـ”إسرائيل”. ولهذا بادرت لمعركة السيف في مايو/ايار ٢٠٢١ حينما اقتحم الاحتلال المسجد الأقصى في رمضان الماضي، وامتنعت المقاومة عن الردّ على الاحتلال حينما كان متحفزأً للهجوم على القطاع ارتباطاً بالدروس المستخلصة من معاركها وحروبها السابقة مع الاحتلال. وهكذا بدت المقاومة في نضج سلوكها كأنها تخوض الصراع كالسائر على حبل مشدود يحتاج الكثير من ضبط الأعصاب في مواجهة عدو يمتلك الكثير من وسائل الاستفزاز.
وحتى اللحظة، يبدو العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة محاولة منه لأخذ المقاومة لمعركة في وقت مناسب له إقليمياً ودولياً، وقد بناها على قراءة السلوك والخطاب وتحليل البنية النفسية لقادة المقاومة متوقعا أنهم راغبون في محاكاة حالة توازن القوة غير الواقعية. وهو توازن غير محقق فعلاً إن لم تتدخل قوة ثالثة لدعم المقاومة، وهو لم يحصل عبر كل تاريخ العدوان الإسرائيلي على القطاع.
دوافع الاحتلال
يرتبط التصعيد الصهيوني الحالي ضد قطاع غزة بعدة سياقات هامة أبرزها: أن حكومة يائير لابيد المؤقتة بحاجة إلى تسجيل نقاط أو رصيد سياسي يمكن أن يمنحها الفرصة مجدداً للبقاء في الحكم أو لتصدر المشهد السياسي في “إسرائيل” قبل الانتخابات المنتظرة بعد نحو ثلاثة أشهر.
بعباره أخرى، يبدو أن ثمة هدف سياسي للتصعيد الحالي ضد قطاع غزة لأنه يتزامن مع التنافس السياسي بين يائير لابيد وبيني غانتس من جهة، ومن جهة أخرى يسعى كل من لابيد وغانتس إلى تفويت الفرصة على نتنياهو الذي عرض قبل ساعات من الآن خطته الاقتصادية التي يسعى لتطبيقها إذا ما تمكن من الفوز في الانتخابات المُقبلة. لذلك ربما يكون هدف غانتس تفويت الفرصة على نتنياهو المرشح بقوة للعودة إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية.
العامل العسكري والأمني
ابقاء قطاع غزة تحت الحصار، واستنزافه، وتخريب وتفكيك بناه، وتحطيم نموذجه المقاوم، هي أهداف أمنية “إسرائيلية” ذات حضور دائم في كل عدوان “إسرائيلي”، وهي مهمة في هذه الفترة تحديداً لرغبة “إسرائيل” في تصفية آثار عملية سيف القدس، وإعادة المقاومة لملعب المنفعل وغير القادر على المبادرة. وتستخدم “اسرائيل” في عدوانها ادعاءات لنوايا أحد فصائل المقاومة وتحديداً الجهاد الإسلامي بالرد على استهدافها كوادرها في جنين. وهو استخدام مخاتل لنوايا موجودة دائماً في طبيعة الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” حيث إن هناك ” اسرائيلون” يناقشون بشكل مستمر سبل العدوان على الشعب الفلسطيني، وفلسطينيون يناقشون في نفس الوقت سبل مقاومة عدوان الاحتلال الدائم والمستمر منذ عقود. ومن الواضح أن المبادرة “الاسرائيلية” بالعدوان على قطاع غزة كله بدعوة استباق خطر النوايا، هي جريمة من طبيعة الاحتلال “الإسرائيلي”، تتعارض مع العقل والضمير الانسانيين.
تقدير الاحتلال
تفصلنا بعد ساعات على ترشح توقعات دوائر صنع القرار “الإسرائيلية”، ولكن يمكن توقع بعض عناصره من خلال السلوك الإسرائيلي في الأشهر الأخيرة التي كانت مشغولة في البحث عن سبل الحاق ضربة موجهة بالمقاومة، واحراجها، وتفكيكها إن أمكن. لن يكون بعيداً عن الصواب توقع أنها تراقب آثار الصراع في المنطقة على تحالفات أطراف فلسطينية مع إيران. وتراقب المناورات السياسية بين الأطراف الفلسطينية، وأنها حللت الانتكاسة (ربما المؤقتة) في مساعي إنشاء جبهة وطنية. في الوقت الذي تصر قيادة منظمة التحرير على رفض مسار المصالحة الوطنية أو الذهاب نحو الانتخابات شاملة. كما أن “إسرائيل” تعلم أثر التخبط الفصائلي بخصوص الوجود الفلسطيني في الشتات، وكذلك آثار تدمير المخيمات في سوريا ومنع أهاليها من العودة إلى بيوتهم. بالمختصر هناك الكثير مما يمكننا من الاعتقاد بأن “إسرائيل” تجد الوضع الفلسطيني مناسب لتخطو خطوة، أو أكثر، على طريق أهدافها. وغني عن القول إن الوضع الإقليمي مريح لها، ليس فقط في خندق اصدقائها، بل أيضا في خندق أعدائها إذ لا بد أنها تستثمر أيام حرجة لإيران وهي تجري مفاوضات تعول عليها مع الغرب لتستطيع الخلوص منها إلى أمور شتى تمكنها من استكمال طموحها في المنطقة، بينما تهيمن على أولويات حزب الله انجاز اتفاقات لبنانية مع “إسرائيل” بخصوص الحدود البحرية والغاز يشاع أنها باتت قريبة دون الاضطرار لخوض مواجهة واسعة مع دولة الاحتلال.
وفي نفس الوقت يعتمد الاحتلال على أن الظروف الحياتية والإنسانية في قطاع غزة لا تحتمل ذهاب المقاومة نحو معركة واسعة، يمكن أن يترتب عليها مزيداً من المعاناة للمواطنين. وهو ما قد يؤدي لاعتماده خطة باحتمالين، الأول أنه بصدد معركة قصيرة يستطيع فيها تحقيق حزمة من المنافع التي تأتي في نطاق أهدافه سابقة الذكر وبنفس الوقت قتل “تيسير الجعبري” كهدف ثمين بسهولة شديدة. والاحتمال الثاني أن تندفع المقاومة لمواجهة طويلة بوقت غير موات، تستنزفها، وتعطل مخططات عملها، وتنهك مواطني القطاع، وتقوي الشكوك بالموقف الإقليمي وحتّى بمتانة تحالفاتها ومحورها.
ختاماً
سينشغل المحللون في محاولة توقع الوقت الذي ستستمر فيه هذه المعركة، بدل عن ذلك نفضل الاهتمام باقتراح عناصر أساسية من الرد المفيد فلسطينياً. فكلا الاحتمالين الذان نتوقع أن “إسرائيل” ترسمها للمعركة غير محبذان، ولكن كلاهما ينطلق من أن الرد الفلسطيني سيكون عسكرياً ومن غزة، ولفتح احتمال ثالث أنسب للفلسطينيين يقترض التفكير بخيارات الرد غير العسكرية وفي كل الأماكن الممكنة. وهذا، بخلاف ما يبدو، ممكن جداً، بل لعلها أفضل لحظاته. فالعالم يضيق بحالة الحروب، والدول الغربية جيشت شعوبها ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وهو ما يمكن محاكاته دون الدخول في اصطفافات الحرب نفسها، وذلك عبر خطاب يستخدم مفردات الغرب لوصف “العدوان” الروسي على أوكرانيا. ويمكن لتحرك سياسي واسع للقيادة الفلسطينية على الصعيد العربي والإسلامي، مع المطالبة بعقد قمم على هذين الصعيدين، وزيارة القادة للمطالبة بذلك، أن يحقق مجموعة أهداف: أولاً، نقل المعركة إلى الميدان الدبلوماسي؛ وثانياً، تفعيل قدرة الأصدقاء على التضامن والضغط؛ وثالثاً، الضغط على الأطراف المطبعة؛ ورابعا، استشراف إمكانيات جديدة.
ولكن لتغيير مكان المعركة، وشروطها، وادواتها، يجب تجنب الخطاب العسكري الذي يصور الأمر وكأن هناك جيشان يتواجها، وعدم الدخول بمفردات الانتصار، والقوة، والتركيز بدل من ذلك على الحقائق، وهي أن جيش الاحتلال “الإسرائيلي” قام دون سبب واقعي بالاعتداء على قطاع غزة، وهو يرفض انهاء عدوانه مصراً على تحقيق انتصار على ضحاياه.