التحول في الطرح الأمريكي للقضية الفلسطينية في ضوء زيارة بايدن
تمهيد:
جرت العادة على الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض منذ الارتباط الوثيق لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها الاستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط إثر الحرب العالمية الثانية، تنظيم زيارات متتالية إلى المنطقة؛ للتأكيد على الوصاية الاستراتيجية لها، ومناقشة القضايا العالقة، بما فيها القضية الفلسطينية، التي بدأت تعتلي أجندة تلك الزيارات بدءاً من زيارة بيل كلينتون عام 1998، وحتى الآن.[i] وعلى الرغم من الترويج الإعلامي لهذه الزيارات من خلال ربطها بدفع مسار التسوية إلى جانب الأهداف الاستراتيجية التي تمثلت بدعم أمن دولة الاحتلال، إلا أن مضمونها ومحتواها غالباً ما يأخذ طابعاً روتينياً دون التطرق إلى حلولٍ جادة من شأنها إيجاد خارطة عملية ومخرج وسط لأطراف هذه القضايا.
تعد القضية الفلسطينية والملف الإيراني من أكثر القضايا التي علت أجندة تلك الزيارات على مدار خمسة وعشرين عاماً، وكلا الملفين كانا يُطرحا برؤيةٍ أمريكية-إسرائيلية مشتركة للحل، مما أبقاهما دون حلٍ وعلى ذيل تلك الزيارات حتى يومنا هذا.
كثيراً ما تُوصف هذه الزيارات بطابعٍ تأكيديٍ للوصاية الأمريكية على المنطقة وتعزيز أمن دولة الاحتلال أكثر من كونها تحريكاً للقضايا والملفات العالقة، وهذا ما لوحظ من أجندة زيارة بايدن الأخيرة التي تذّيلت قائمتها القضيةُ الفلسطينية في تهميشٍ واضحٍ لها. وهنا أكدت العديد من الصحف العبرية على أن كلاً من بايدن ولبيد تطرقا إلى القضية الفلسطينية في ثوان معدودة، بينما انصب التركيز على التعاون العسكري والأمني بين الجانبين، ودعم أمريكي لا محدود في ظل التحولات والمتغيرات الإقليمية التي من شأنها تمكين دولة الاحتلال من قيادة وضعٍ إقليمي لم يتشكل بعد.
زيارة بايدن والزيارات السابقة:
تتقاطع زيارة بايدن الحالية مع جميع الزيارات السابقة في العديد من الأهداف الاستراتيجية التي يسعى الأمريكيون إلى التأكيد والحفاظ عليها مراراً من خلال خطواتٍ عمليةٍ ومتجددةٍ تعزز مصالحهم في المنطقة، وغالباً ما يجري الإعلان عنها في لقاءاتٍ وزياراتٍ متبادلة مع دولة الكيان، في إشارةٍ واضحة للتكامل الوظيفي الاستراتيجي بينهما. ولعل من أهم وأبرز هذه الأهداف الاستراتيجية التي تسعى الإدارات الأمريكية المتوالية إلى تحقيقها من جراء زيارات رؤساءها إلى المنطقة، ما يلي:
– التأكيد على أمن دولة الكيان وأهمية وجودها في المنطقة لتعزيز المصالح الأمريكية فيها، وهذا ما يتضح من أجندة وسير الزيارات الأمريكية التي تكون في الأغلب محطتها الأولى “إسرائيل”، في إشارةٍ واضحة لأولوية أمن الأخيرة في المنطقة؛ وبناءً عليه، تسعى الإدارات الأمريكية من خلال هذه الزيارات إلى تعزيز المنظومة الدفاعية والأمنية لدولة الاحتلال.
وفي هذا السياق، جرى الحديث في إطار زيارة بايدن عن محاولة تزويد منظومة الاحتلال الدفاعية بأنظمة الليزر عالية الطاقة التي أشار إليها في خطابه عند وصوله تل أبيب، وهو ما أُشير إليه أيضاً في مذكرة التعاون المشترك بما عُرف بـ”إعلان القدس” للشراكة الاستراتيجية.[ii]
– التأكيد على الوصاية الأمريكية والتزامها بدعم حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، من خلال تعزيز العلاقات الثنائية، والتوقيع على العديد من الاتفاقيات الأمنية والعسكرية معهما، وهو ما أُكد عليه في كافة الزيارات السابقة، بما فيها زيارة بايدن الأخيرة، التي تسعى في مضمونها إلى تعزيز العلاقات الخليجية الأمريكية، وعلى رأسها السعودية -التي لم تخلو من أي أجندةٍ أو برنامجٍ لأي زيارةٍ أمريكيةٍ قط – حيث احتوت على العديد من الملفات الثنائية الهامة، وعلى رأسها ملفي النفط والتهديد الإيراني.
وبالموازاة مع ذلك جرى الحديث عن اتفاق إسرائيلي سعودي يمنح الرياض سيادة على جزر تيران وصنافير، مع ضمان حرية ملاحة للسفن الإسرائيلية في البحر الأحمر بضمانات أمنية أمريكية، علاوة على فتح الأجواء السعودية للطيران المدني الإسرائيلي المتجه شرقاً، إضافة إلى تفاهمات بشأن استقبال المملكة العربية السعودية للحجيج الفلسطينيين الحاملين لجوازات سفر إسرائيلية.
– القضية الفلسطينية ومناقشة حل الدولتين من خلال محاولة استئناف مفاوضات السلام بين الطرفين، ويعد هذا الملف من أكثر الملفات استهلاكاً من الناحية الموضوعية ضمن أجندة الزيارات الأمريكية المتتالية على المنطقة، لكن دون جدوى تُذكر؛ حيث لم يجد الدور الأمريكي في تحقيق أي شيء عملي وواقعي على مستوى إعادة تفعيل المفاوضات العالقة أو وقف الاستيطان كخطوةٍ عملية لهذا المسار، مما أحاط هذه الزيارات هالة من عدم الجدية ونوع من الروتينية، خاصةَ وأن الزيارة الحالية التي يقودها بايدن همّشت ملف القضية الفلسطينية بشكلٍ واضحٍ وصريح، وهو ما كان متوقعاً نظراً للتحولات والمتغيرات الإقليمية التي جاءت مواتية لذلك.
– الدعم الأمني للسلطة الوطنية الفلسطينية بتعزيز منظومتها وأجهزتها الأمنية، ما يؤكد على الهدف الاستراتيجي الأمريكي والإسرائيلي في الإبقاء على السلطة ضمن منظومتها الأمنية وحصر وظيفتها في التنسيق الأمني المتبادل بعيداً عن كونها مرحلة انتقالية لتحقيق الإلتزام بقيام دولة فلسطينية على أساس حل الدولتين. وهو ما تطرقت إليه أيضاً زيارة بايدن الحالية من خلال تعزيز الدعم الأمريكي الاقتصادي والأمني لمنظومة السلطة الفلسطينية منعاً لإنهيارها في المرحلة المقبلة؛ تحسباً لأي تغيرٍ طاريء على مستوى قيادتها خاصةً بعد أن لاحت في الأفق سوء أحوال عباس الصحية.
إعلان القدس ومحاولة دمج “إسرائيل”:
اختلفت زيارة بايدن الجارية في المنطقة عن سابقتها في كونها تطرقت إضافةً إلى طرحها الملفات الروتينية سابقة الذكر إلى مناقشة وبحث ملف تشكيل تحالفٍ أمني جديد يضم “إسرائيل”، في محاولةٍ من الإدارة الأمريكية الحالية لدمجها في المنطقة على رأس تحالفاتٍ وشراكات اقتصادية وأمنية مع دول المنطقة؛ تهدف قبل كل شيء إلى رعاية المصالح الاستراتيجية الغربية والأمريكية فيها، ولمواجهة التهديد الإيراني من جهة أخرى.
ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد أن هذه الخطوة تأتي كمحاولة تكميلية لمسار التطبيع الذي كُلل خلال العامين الماضيين بالعديد من اتفاقات التطبيع السياسي والاقتصادي والعسكري مع بعض دول المنطقة. وكان من ضمنها التحالف الدفاعي المشترك الذي أشارت إليه الإمارات بكونه اتفاقية شراكة استراتيجية ودفاعية شاملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل؛ وذلك للتصدي للتهديد الإيراني، وأكد على هذا التوجه أيضاً مذكرة التعاون المشترك التي أعلن عنها أثناء زيارة بايدن تحت مسمى “إعلان القدس” للشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، والتي كانت إحدى بنوده توسيع دائرة التطبيع لتشمل دول أخرى في المنطقة.
زيارةٌ مواتية للتحولات الإقليمية:
انعكست التحولات والمتغيرات المستجدة في المنطقة بشكلٍ واضح على تغير سير أجندة الزيارة الحالية موضوعياً، خاصةً فيما يتعلق بتخطي مسألة الربط المشروط بين عملية السلام في القضية الفلسطينية والاصطفاف العربي مع “إسرائيل” لعزل إيران، في تباينٍ واضح مقارنةً بالزيارات الأمريكية السابقة،[iii] والتي عادةً ما كانت تتطرق إلى هذا الربط في محاولة إقناع العرب بالاصطفاف سلفاً إلى جانب إسرائيل لمواجهة التهديد الإيراني المشترك. وهو ما شملته اتفاقات ابراهام ضمنياً دون الحاجة إلى هكذا ربط، حيث اصطفت أغلب دول الخليج إلى جانب دولة الاحتلال في تطبيعٍ سياسي واقتصادي.
ومن الملاحظ في زيارة بايدن، أنها تنصلت وبشكل واضح من أي التزامٍ أمريكي متعلق بإعادة تفعيل مسار التسوية ومفاوضات السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، حيث لم تعد القضية الفلسطينية طريقاً أو شرطاً للتطبيع العربي الإسرائيلي، وهو ما يتفق مع مسار ورؤية الرئيس الأمريكي السابق ترامب “صفقة القرن”، حيث تحول الخطر الإيراني الدافع الرئيس لإنجاز اتفاقيات التطبيع.[iv]
ولا ريب في أن الأهداف العملية لزيارة بايدن تركزت على ضرورة تكوين شراكة أمنية بين إسرائيل ودول المنطقة لمواجهة التهديد الإيراني في تكاملٍ عمليٍ لم يُعهد من قبل، وهو السمة البارزة التي أعطت الزيارة اختلافاً واضحاً عن سابقاتها من الزيارات، وإن كانت تتقاطع معها في روتينية طرحها للمواضيع الأخرى العالقة.
ختاماً، لا يمكن ربط زيارة الرئيس الأمريكي بايدن إلى المنطقة بأي انعكاسات جادة وواقعية على مستوى القضية الفلسطينية، غير أنها تُحقق تقدماً ملحوظاً فيما يتعلق بتعزيز منظومة “إسرائيل” الأمنية والدفاعية، وتكوين شراكة استراتيجية أمنية تضم “إسرائيل” وعدد من دول المنطقة تمهّد لاندماجها الإقليمي.
على الجانب الأخر كان الرفض الفصائلي والشعبي الفلسطيني باستثناء حركة فتح واضحاً، وهو ما يستدعي ضرورة عدم التعويل على هكذا زيارات لا تغني ولا تسمن من جوع، خاصةً وأن سابقاتها لم تأتي بأي نتائج إيجابية على الواقع السياسي الفلسطيني.
وفي المقابل، لابد من إعادة تقييم الحسابات الفلسطينية وصياغتها على أسسٍ وطنية تقوم على تبني سياسات أكثر حزماً لإعادة تفعيل أدوات الضغط السياسي من خلال الاستفادة من الملف الميداني في المناطق الفلسطينية كورقة ضغطٍ قد تحرك المياه الراكدة في هذه القضية؛ لأن سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة وفلسفة دولة الاحتلال تبقى رهينة الوضع القائم الذي يحافظ بصورته الحالية على الهدوء في المناطق الفلسطينية دون تشكيل أي خطر أو تهديد أمني لدولة الاحتلال من جهة، ويوفر الأرضية والمساحة الهادئة للاستمرار في تنفيذ السياسات الاستيطانية من جهةٍ أخرى.
وفي ظل غرق السياسات العربية في مستنقع المتناقضات، والعجز الأمريكي عن الدفع بعجلة مسار التسوية إلى الأمام، لابد من تجاوز المبررات الواهية التي لا تجرنا إلى الهاوية على المستويين السياسي والأمني على المدى القريب والمتوسط، فالبيت الفلسطيني بحاجةٍ ملحة إلى إعادة تقييمٍ وترتيبٍ تقوم على أسس توحيد الخطى وشراكة فصائلية واسعة تضع برنامج سياسي واضح للخروج من المأزق المستجد لتجاوز الخلافات السياسية في سبيل توحيد صفوف المواجهة مع الاحتلال على مختلف المستويات.
لتحميل الملف بصيغة بي دي اف، إضغط هنا.
[i] معظم الزيارات الأمريكية لكلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي أكدت على أهمية دعم وتعزيز أمن دولة الاحتلال في المنطقة، دون التطرق إلى مسار التسوية بشكلٍ جدي أو واقعي؛ فزيارة كلينتون عام 1998 كانت على الرغم من التزام الأخير بخطواتٍ عملية بدفع مسار التسوية تؤكد على دعم منظومة الاحتلال الأمنية بما يقارب مليار دولار، وزيارة بوش عام 2008، جاءت هي الأخرى بعد تعثر مؤتمر أنابوليس للسلام لتؤكد على أهمية أمن “إسرائيل” من خلال طرح ملف إيران وحزب الله وحماس على رأس أجندتها، وكانت الحملة العسكرية ضد قطاع غزة في إطار هذا التوجه، وكذا الحال بالنسبة لزيارة أوباما عام 2013 الذي أعلن عن الالتزام الأمريكي بدعم منظومة القبة الحديدية، مؤكداً على أهمية تعزيز أمن إسرائيل في المنطقة، وأما بالنسبة لزيارة ترامب، فتوجهاته وسياساته جاءت داعمة لهذا التوجه، إلى جانب اتفاقيات أبراهام لدمج إسرائيل في المنطقة ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية.
[ii] وثيقة وُقّع عليها في اجتماعٍ ثنائي، جمع كلاً من الرئيس الأمريكي بايدن ورئيس وزراء دولة الاحتلال يائير لابيد، وكان مفادها بجميع بنودها التأكيد على الالتزام الأمريكي بالحفاظ على أمن “إسرائيل”، وتعزيز منظومتها الأمنية والدفاعية، ومنع جميع التهديدات الإقليمية على وجودها، بما فيها الأنشطة الإيرانية في المنطقة، مع تجاهلٍ صريح وواضحٍ لأولوية القضية الفلسطينية وحلها في تعزيز الاستقرار الإقليمي. ينظر: النص الكامل لوثيقة “إعلان القدس” التي وقعها بايدن لضمان أمن إسرائيل، الجزيرة نت، 14.07.2022، https://2u.pw/8eJ51
[iii] شغل الملف الإيراني منذ ظهوره وحتى يومنا هذا أجندة الزيارات الأمريكية إلى المنطقة؛ حيث كانت تتطرق معظمها إلى ملفات أمنية وسياسية للتعاون الاستراتيجي مع دول المنطقة لتحجيم النفوذ الإيراني وإبقاء المنطقة بعيدة عن تدخلاته، كما طُرح في زيارة بوش للمنطقة عام 2008، ولكن بعد أن تغلغلت الأذرع الإيرانية إلى العديد من دول المنطقة في تجاهلٍ أمريكي واضح؛ رغبةً في إقحام العراق في وحل الانفلات الأمني، أصبح الملف الإيراني تهديداً حقيقياً دعت الحاجة إلى منع هذا التهديد لا تحجيمه لأنه كبر قدر المستطاع، وهذا سبب تغير الطرح الأمريكي لهذا الملف في زيارة بايدن الجارية حالياً من محاولة التحجيم إلى محاولة وقف ذلك التهديد بخطواتٍ عملية لتعزيز منظومة الاحتلال الدفاعية والهجومية.
[iv] كما حدث في أجندة زيارة بوش الابن للمنطقة، التي تطرقت إلى مسألة التطبيع من خلال طرحها مبادرة أنابوليس للسلام، والتي كانت خطوة تمهيدية لصياغة تطبيع إقليمي من أجل توحيد الجهود بين دول المنطقة و”إسرائيل” لمنع النفوذ الإيراني من التمدد.