أوراق سياسيةتقدير الموقف

في دلالات الموقف المصري من الحرب الأخيرة

أعلن المتحدث باسم رئاسة الجمهورية المصرية في ١٨ مايو عن “تقديم مصر مبلغ ٥٠٠ مليون دولار كمبادرة مصرية تخصص لصالح عملية اعادة الاعمار في قطاع غزة نتيجة الاحداث الاخيرة، مع قيام الشركات المصرية المتخصصة بالاشتراك في تنفيذ عملية اعادة الاعمار”، وهو ما اعتبره البعض تطورًا كبيرًا في الموقف المصري تجاه تطورات الأحداث في فلسطين، نظرًا لحالة التباين بين حركة حماس في قطاع غزة من جانب، والنظام المصري من جانب آخر.

غزة ومصر خلال عقدٍ من الزمان.

بدا أن هناك تطورًا لافتًا حصل في الموقف المصري من قطاع غزة بعد مجزرة مافي مرمرة في عرض البحر المتوسط، إذ استشعرت مصر لأول مرة إمكانية قيام لاعبين جدد فرض معادلات جديدة داخل قطاع غزة، إذ أعقب الحدث زيادة في النفوذ التركي في القطاع عبر سلسلة من المشاريع والعمليات الاغاثية، مما جعلها تُحسن من وضعية معبر رفح بشكل كبير، وتغض الطرف عن عمليات التهريب عبر الأنفاق، وقد ازداد النفوذ المصري في قطاع غزة بشكل كبير وواسع عقب الثورة المصرية في عام ٢٠١١ ومن ثم انتخاب محمد مرسي رئيسًا لمصر في عام ٢٠١٢، إذ أصبح معبر رفح يعمل على مدار الساعة، ولم تتوقف قوافل الإغاثة والمساعدات من دخول القطاع، لكن الحدث الأهم، كان الموقف المصري الحاسم في حرب ٢٠١٢، وزيارة رئيس الوزراء المصري لقطاع غزة أثناء العدوان على قطاع غزة.

لكن وضعية مصر تجاه قطاع غزة ما لبثت أن تعرضت لانتكاسة عقب الانقلاب الذي حصل في عام ٢٠١٣، وتبني النظام المصري لسردية وطنية قائمة على العداء الكبير للإسلام السياسي، واعتبار غزة كأحد مهددات الأمن القومي المصري، واتهامها بلعب أدوار أمنية في سيناء وأحيانًا في القاهرة، وهو الموقف الذي انعكس على السلوك المصري ضد حركة حماس وتجلى في حرب ٢٠١٤، إذ أنه ولأول مرة تغاضت القاهرة عن موقف المقاومة الفلسطينية وحاولت فرض شخصيات من السلطة وحركة فتح كممثلين لوفد الفصائل أولًا، وقدمت مبادرة للتهدئة لم تلبي الحد الأدنى من متطلبات المقاومة الفلسطينية ثانيًا.

لكن ومنذ عام ٢٠١٧، حصل تقارب جديد بين حركة حماس والنظام المصري، وذلك بناءً على تفاهم إيجابي متعلق بتخفيف الحالة الاقتصادية التي تفاقمت في القطاع بفعل العقوبات التي اتخذتها السلطة ورئيسها محمود عباس ضد غزة، بالإضافة للتعاون الأمني في بعض المجالات التي تحفظ أمن الطرفين، وخصوصًا أن أي فوضى قد تحصل في القطاع، ستتضرر منها مصر بشكل كبير، وبناءً على هذا التفاهم، وعلى إثر مسيرات العودة في قطاع غزة وتحديدًا في ١٤ مايو، قامت مصر بخطوات جديدة للتقارب مع قطاع غزة، كان أهمها السماح بدخول البضائع يوميًا لقطاع غزة، وفتح معبر رفح بشكل شبه يومي، وبطاقة استيعابية تصل لـ٣٠٠ مسافر يوميًا.

كان هذا التفاهم، أحد أهم مكتسبات العلاقة بين الطرفين، فمن جانب، كانت غزة أحد أبرز نجاحات النظام المصري في المحافظة على نفوذه ومكانته، إذ أن مكتسبات القطاع في عدة ملفات انعكست على الحضور المصري بشكل أو بآخر، مثل رعايته لصفقة التبادل في عام ٢٠١١، ورعايته الرئيسية لجولات التهدئة منذ انطلاق مسيرات الحصار، بالإضافة للقاءات الفصائل ومحاولته إتمام جهود المصالحة الفلسطينية، وذلك بجانب ما نظر اليه على أنه تراجع مصري في العديد من الملفات الإقليمية، مثل غاز المتوسط، والملف الليبي، وملف سد النهضة مع اثيوبيا.

تحول كبير، أم مناورة مصرية؟

حتى الآن لم تتضح معطيات المبادرة المصرية الأخيرة بخصوص إعادة اعمار قطاع غزة، وذلك لمجموعة من الاعتبارات أهمها ما هو اقتصادي نظرًا لضعف القوة الاقتصادية المصرية وما مدى إمكانية توفيرها هذا المبلغ من المال، وثانيًا ما هو سياسي واقليمي، إذ أن خطوة كبيرة بهذا الحجم، من غير المتوقع عدم وجود تغطية إقليمية وربما دولية لها، ذلك أن هذه الخطوة بمقدورها تجاوز كل آثار جولة الحرب الأخيرة وبما يفوق حتى خسائر قطاع غزة، والتي ما زالت حتى اللحظة تقدر ب٢٠٠ مليون دولار.

لكن على الرغم من ذلك، هناك مجموعة من الملاحظات على وضعية مصر في الفترة الأخيرة، أهمها هو حالة التراجع في الدور المصري اقليميًا، وخصوصًا فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، إذ فقدت مصر الكثير من أهميتها كوسيط بين دولة الاحتلال والعرب، مقابل الحضور الخليجي الذي ترعاه الامارات بعد اتفاق ابراهام، وذلك في ظل كون مصر عمليًا، هي الطرف الأكثر تأثيرًا في معادلة الأمن الإسرائيلي بسبب قربها من غزة، وحملتها الواسعة على الانفاق الحدودية التي جففت-من وجهة نظر الاحتلال-من معظم عمليات الامداد ودمرت معظم الأنفاق الحدودية.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الموقف الإسرائيلي من سد النهضة الإثيوبي، وعدم قيام الاحتلال بأي دور أو وساطة للضغط على اثيوبيا للتقارب مع مصر في هذا الملف في ظل النفوذ الإسرائيلي في اثيوبيا، مع تقدير بعض مؤسسات الدولة ويقينها بأن الاحتلال لم يلعب الدور المطلوب منه فقط، بل هو متآمر مع اثيوبيا في ملف السد، ويرى فيه منجزًا استراتيجيًا لإفقار مصر وتقليص نفوذها، ذلك أن الدعم الإسرائيلي لأثيوبيا لمحاصرة مصر كان أحد السرديات الوطنية التي تبنتها مصر لفترة طويلة.

أي أن مصر تحاول تثبيت نفسها كمركز إقليمي يستطيع أن يكون أحد ضامني القضية الفلسطينية، وأحد مقرري الهدوء في جبهاتها، ذلك أن ضخامة فعل المقاومة في الجولة الأخيرة، أثبت أن غزة-وهي بوابة النفوذ المصري المتبقي للقضية الفلسطينية-تستطيع أن تغير الكثير من المعادلات، وأن تربك حسابات الاحتلال ليس فيما يتعلق بقطاع غزة فحسب، بل بكل مخططاته في الضفة والقدس.

مبادرة مصرية، أم أوسع من ذلك؟

من المستبعد حاليًا، أن تكون مبادرة إعادة الاعمار المصرية عبارة عن مبادرة مصرية بالكامل، قد تكون مصر هي بوابة الملف، وحاضنته الأساسية، وفي الغالب فإن العرض المصري يجيء في اطار توافق إقليمي وربما دولي لإعادة اعمار القطاع عبر مصر، وتثبيت دورها كضامن للهدوء في قطاع غزة، مع زيادة ربط غزة بمصر بعيدًا عن التأثير الإسرائيلي، وبدرجة أقل السلطة الفلسطينية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق