“حوارات اسطنبول” بين فتح وحماس .. البناء على رمال متحركة
مقدمة
بعد يومين من المباحثات، في مدينة اسطنبول التركية، أصدرت حركتي فتح وحماس بياناً مشتركاً، في 24 سبتمبر، تعلنان فيه عن “انضاج رؤية متفق عليها بين الوفدين” ستقدم للحوار الوطني الشامل الذي تشارك فيه القوى والفصائل الفلسطينية، لتعلن بشكل نهائي في لقاء الأمناء العامين للفصائل برعاية رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قبل الأول من أكتوبر.
منذ الإعلان عن نية الاحتلال الإسرائيلي ضم أجزاء من الضفة الغربية، بدأ الحوار الداخلي الفلسطيني خاصة بين قطبي الساحة الكبيرين (فتح، حماس) يأخذ طابعاً أكثر جدية، توج بعقد المؤتمر الصحفي المشترك بين القيادي في حركة فتح وعضو اللجنة المركزية فيها جبريل الرجوب، ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الشيخ صالح العاروري، وتعهدهما خلال المؤتمر بالتوحد في مواجهة صفقة القرن وخطر ضم الأراضي، تلاها إعلان عضو المكتب السياسي لحركة حماس حسام بدران، عبر تلفزيون فلسطين التابع للسلطة الفلسطينية، الإعلان عن التوافق مع حركة فتح على “المقاومة الشعبية الشاملة” لمواجهة خطر الضم في الأراضي الفلسطينية.
جاء إعلان اتفاق كل من دولة الإمارات ومملكة البحرين، عن تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وما بدا أنها تحولات جيوسياسية تنعطف بشدة لصالح “إسرائيل”، وضعت القضية الفلسطينية في مأزق غير مسبوق، هددها بخسارة عمقها العربي الاستراتيجي، ليشكل نقطة تحول أخرى وهامة على صعيد الحوار الفصائلي الفلسطيني بصورة عامة والثنائي بين حماس وفتح بصورة خاصة، بدأت في بيروت باجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية الذي تقرر فيه تشكيل لجنة وطنية تقدم رؤية لتحقيق إنهاء الانقسام والمصالحة والشراكة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حتى وصلت إلى اسطنبول، التي خرجت بالتوافق على إجراء انتخابات عامة تبدأ بالمجلس التشريعي ثم رئاسة السلطة وأخيراً المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية.
الانقسام والانتخابات، واقع مستعصٍ وقضايا معلقة.
خلال سنوات الانقسام؛ تكونت حالة مثالية وفريدة لرئيس السلطة محمود عباس عززت هيمنته على السلطة الفلسطينية، بصورة لم يحظَ بها _على الأقل شكلاً_ الرئيس السابق ياسر عرفات، حيث أصبح المجلس التشريعي منذ العام 2007 في حكم المعطل وفق القانون، ما أتاح له إلى جانب ترأسه للسلطة التنفيذية، اكتساب سلطة تشريعية بموجب نص المادة (43) من القانون الأساسي الفلسطيني لعام 2003، التي منحته صلاحية إصدار قرارات لها قوة القانون في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، وهو الحق الذي اعتبره مراقبون أنه تعسف بشدة في استخدامه عندما أصدر عشرات القرارات بقوانين منذ العام 2007 وحتى تاريخه، كما ساعد ترأسه للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية في تعزيز شرعيته الداخلية والخارجية، فيما يواصل إحكام سيطرته على تنظيمه “فتح” أيضاً.
مقابل ذلك؛ كان قطاع غزة الذي تسيطر عليه حماس، يعيش تحت وطأة حصار إسرائيلي مشدد، وجولات تصعيد عسكري استغله جيش الاحتلال في المزيد من إنهاك البنى التحتية، ثم جاءت الإجراءات العقابية التي باشرتها السلطة الفلسطينية في إبريل 2017 تجاه قطاع غزة وشملت تقليص رواتب موظفيها بنسبة تصل من 30% إلى70% أحياناً، والتوقف عن توريد وقود إلى محطة توليد كهرباء غزة، وغيرها من القرارات، لتزيد من خطورة الأوضاع في قطاع غزة، وترفع معدلات الفقر بين السكان لأكثر من 65%.
في 26 سبتمبر2019؛ أعلن محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناسبة افتتاح مداولاتها في الدورة 74، أنه سيدعو إلى إجراء انتخابات عامّة في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، ليلعن بعدها في 6 أكتوبر 2019 خلال اجتماعه بأعضاء اللجنتين المركزية لفتح والتنفيذية لمنظمة التحرير أنه سيبدأ حواراً مع حركة حماس وكل التنظيمات بغرض التحضير للانتخابات المقبلة.
باشرت لجنة الانتخابات المركزية في حينها مداولاتها مع قادة الفصائل، خاصة حركة حماس، بغرض الدخول في تفاصيل عملية تهدف إلى إجراء انتخابات تشريعية أولاً، تليها الانتخابات الرئاسية، كما اشترط أبو مازن، وقد أشارت تقارير صحافية مختلفة حينها، إلى أن إعلان رئيس السلطة عن نيته إجراء انتخابات عامة، جاء استجابة لضغوط كبيرة مورست عليه من دول في الاتحاد الأوروبي، غير أن المرونة التي أبدتها حماس حينها في القبول بإجراء انتخابات وفقاً لرؤية عباس، قد فاجأت حركة فتح التي بدت غير مستعدة للانتخابات في المرحلة الحالية، ليغلق الملف مؤقتاً برفض عباس إصدار مرسوم بشأن إجراء الانتخابات، بحجة عدم حسم ملف الانتخابات في القدس.
المصالحة والانتخابات، المسار المعقد.
حظي المؤتمر الصحفي الذي عقد في 2 يوليو/تموز الماضي، بين العاروري والرجوب، باهتمام داخلي فلسطيني واسع، كما لم يكن الاهتمام الإسرائيلي به أقل شأناً، وقد تلا اللقاء، لقاء آخر بين مسؤول ملف العلاقات الوطنية في حركة حماس حسام بدران، وأحمد حلس مسؤول ساحة غزة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، إذ رأى مراقبون، في اللقائين، مؤشراً هاماً على رغبة جادة من الفريقين لطي صفحة الانقسام، وذلك لعدة أسباب ترتكز في أساسها على التراجع الكبير للقضية الفلسطينية على المستوى الدولي، ووصول مسار التسوية إلى طريق مسدود، وهرولة أنظمة عربية نحو التقارب مع دولة الاحتلال، وأخيراً الانحياز الفاضح لإدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لدولة الاحتلال ورئيس وزراءها بينيامين نتنياهو.
بدا أن تكليف حركة فتح للقيادي فيها جبريل الرجوب بالتواصل مع حركة حماس وإدارة ملف المصالحة، بعد تنحية عزام الأحمد الذي أدار الملف لمدة 13 عام، واتُهِم مراراً من قبل حماس بتعطيل تطبيق التفاهمات بين الجانبين، مؤشراً على رغبة حقيقية لدى حركة فتح للمضي قدماً نحو إنجاز اتفاق ينهي الانقسام، غير أن الوصول إلى اتفاق شامل ينهي 13 عاماً من الانقسام بكل تبعاته، قد لا يبدو بهذه السهولة، وذلك لأسباب عديدة منها:
- العقوبات على قطاع غزة:
رغم التقارب الأخير بين الحركتين، بقي ملف العقوبات التي فرضتها السلطة الفلسطينية على قطاع غزة يراوح مكانه، دون وجود أي مؤشرات على إمكانية إلغاء تلك العقوبات في الوقت القريب، رغم تأثيرها على مناحي الحياة المختلفة في قطاع غزة، وإضرارها بشرائح واسعة من سكان القطاع، حيث لم تفلح المطالبات الشعبية والحقوقية المتواصلة، في حلحلة موقف رئيس السلطة، أو دفعه لاتخاذ خطوة إيجابية في هذا الملف.
رغم الوعود العديدة من قبل قيادات وازنة في السلطة بوقف العقوبات، ومنها تأكيد رئيس الوزراء السابق الدكتور رامي الحمد الله، خلال اجتماع مجلس الوزراء في جلسته رقم (147) بتاريخ 11/4/2017م، أي بعد أيام من الشروع في اقتطاع رواتب موظفي السلطة في غزة، بأن قرار تجميد الرواتب ليس قراراً دائماً، وأنه مرهون باستجابة حركة حماس لـ “مبادرة” محمود عباس بشأن المصالحة، ثم تأكيد الأخير، في ختام الدورة 23 للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في مايو 2018، وانتخابه من قبل المجلس رئيساً لدولة فلسطين، على أن وقف الرواتب كان لأسباب فنية، وسيجري صرفها مجدداً، إلا أن شيئاً لم يحدث، حيث طالت عملية وقف الرواتب أسر شهداء ومعتقلين في سجون الاحتلال، كما لم تصدر أي إشارة من قبل السلطة الفلسطينية تفيد بإمكانية وقف العقوبات.
- القضايا المتعلقة بسير العملية الانتخابية:
خلال الانقسام، ترسخت منظومة عمل بيروقراطية بقيت محل جدل فيما يتعلق بشرعيتها بين الطرفين، فمن جهة السلطة الفلسطينية، أصدر رئيس السلطة في العام 2016 مرسوماً رئاسياً بتشكيل المحكمة الدستورية العليا، وهي المحكمة التي أقرت لاحقاً حل المجلس التشريعي، عدا عن عشرات القرارات بقوانين التي أصدرها عباس، أبرزها في هذا الإطار، قرار بقانون رقم (1) لسنة 2007، بشأن الانتخابات، والذي اشترط على المرشحين لمنصب الرئيس، أو عضوية المجلس التشريعي الالتزام بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وبوثيقة إعلان الاستقلال وبأحكام القانون الأساسي، بما يصعّب عملية ترشح كل من يرفض اعتراف المنظمة بدولة الاحتلال ومنهم مرشحي حماس بالضرورة.
كل ذلك وغيره، قد يثير تحفظات من قبل حماس خلال مناقشة التفاصيل المتعلقة بالعملية الانتخابية، لم تكن ربط رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية نجاح العملية الانتخابية بتحييد المحكمة الدستورية العليا كونها أصدرت قرارها بحل المجلس التشريعي، سوى أحد تجلياتها.
أما من جهة حركة حماس والأجهزة الحكومية في قطاع غزة، فقد شككت حركة فتح والسلطة في شرعية تلك الأجهزة على الدوام، فمن جهة عمل القضاء في قطاع غزة، فقد رفضت السلطة الفلسطينية الاعتراف بشرعية المحاكم هناك، حيث تعتبر السلطة القضائية في الضفة الغربية نفسها السلطة الشرعية كونها معينة وفقاً لأحكام القانون، فيما تعتبر أن قضاة المحاكم في غزة قد شغلوا مواقعهم دون تنسيب من مجلس القضاء الأعلى في الضفة الغربية ودون مصادقة من رئيس السلطة وفقاً لأحكام قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002، وفي العام 2016 قد قضت محكمة العدل العليا برام الله بإلغاء الانتخابات البلدية في قطاع غزة لذات السبب، يضاف إلى ذلك عدم الاعتراف بشرعية الأجهزة الأمنية ولا بطريقة تشكيلها أو تنسيب عناصرها وقياداتها، ما يجعل منها نقطة خلاف خلال التفاوض على سير العملية الانتخابية، أو بعد إجراءها، كون أن حماية العملية الانتخابية ستكون مناط عمل قوى الأمن، وهو الخلاف الذي يمكن أن يؤدي إلى تعطيل المسار الانتخابي برمته، حال انعدمت الرغبة الجادة بإجراء الانتخابات.
- التيار الإصلاحي بقيادة محمد دحلان:
يشكل ما يعرف بـ “التيار الإصلاحي في حركة فتح” الذي يقوده القيادي السابق في الحركة محمد دحلان، أحد الملفات الحساسة لدى قيادة السلطة ورئيسها محمود عباس، إذ أن تقارب حركة فتح مع حركة حماس، قد يؤدي بالأولى إلى الضغط على الأخيرة من أجل وقف أو تقييد أنشطة تيار محمد دحلان في قطاع غزة، خاصة مع التوقعات بتسجيل التيار الإصلاحي حضوره في أي عملية انتخابية قادمة.
سيناريوهات محتملة، لواقع متقلب.
مع استمرار الأجواء الإيجابية على الصعيد الداخلي الفلسطيني، فيما يتعلق بإمكانية تحقيق اختراق ملموس في ملفي المصالحة والانتخابات، تبقى هناك عوامل داخلية وخارجية يمكن أن تساهم في رسم المسار القادم إما ناحية إنجاح التفاهمات الحالية أو تعطيلها، وعليه فإن السيناريوهات المحتملة للمشهد السياسي الفلسطيني في المرحلة المقبلة يمكن أن تنحصر في:
السيناريو الأول: إجراء الانتخابات العامة: وهو السيناريو الذي يمكن أن يحدث حال كانت الرغبة في إجراء الانتخابات جادة لدى كل الأطراف، دون الأخذ بعين الاعتبار أي عوامل أو تغيرات خارجية، ومع ذلك فإن إمكانية تحقق هذا الخيار تبقى محل تشكك وضعف، استناداً إلى تاريخ طويل من التفاوض حول إجراء الانتخابات دون جدوى.
السيناريو الثاني: إجراء الانتخابات التشريعية فقط: وعلى الرغم من كون إجراء الانتخابات التشريعية فقط وتأجيل انتخابات الرئاسة والمجلس الوطني، أكثر احتمالاً وواقعية، كونه سيبقى محمود عباس في موقعه دون الاضطرار للمنافسة عليه من جديد، إلا أن إمكانية تحقق السيناريو تبقى أيضاً محدودة، لأسباب مختلفة منها:
- أن نجاح العملية الانتخابية سيؤدي إلى تكريس الضغوط على عباس لإتمام إجراء الانتخابات الرئاسية ثم انتخابات المجلس الوطني، وهو ما لا يبدو أنه مستعد للقيام به في الظرف الراهن.
- التئام مجلس تشريعي جديد، يعني بالضرورة إمكانية إلغاء كل أو معظم أو حتى بعض القرارات بقوانين التي أصدرها رئيس السلطة طيلة فترة الانقسام، بموجب نصوص القانون الأساسي الفلسطيني، حيث رسخت بعض القرارات بقوانين من هيمنته على النظام السياسي الفلسطيني.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن التوافق على أي نقاط خلافية كإقرار القرارات بقوانين التي أصدرها رئيس السلطة خلال فترة الانقسام، أو الدخول في قائمة انتخابية مشتركة بين فتح وحماس كما تقترح بعض الشخصيات الفلسطينية، يمكن أن يضاعف فرص تحقق سيناريو إجراء الانتخابات التشريعية.
السيناريو الثالث: تعطل مسار المصالحة والانتخابات: وهو السيناريو الذي قد يرتبط بشكل وثيق بانتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في نوفمبر المقبل، إذ تراهن قيادة السلطة الفلسطينية على نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن بالسباق الرئاسي كما تشير معظم الاستطلاعات الأمريكية، وما سيستتبعه ذلك بطبيعة الحال من تراجع في حدة الضغوط الكبيرة التي تمارسها الإدارة الأمريكية الحالية على القيادة الفلسطينية، عدا عن إمكانية تعطل قاطرة التطبيع العربي مع دولة الاحتلال، التي تتم برعاية وضغط من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهو ما من شأنه أن يجعل من المصالحة والانتخابات ملفات ليست ذات أولوية لدى قيادة السلطة، التي ستحاول التركيز على استئناف المفاوضات مع الاحتلال الإسرائيلي برعاية الإدارة الأمريكية الجديدة.
خاتمة.
لا زال من المبكر الحكم بنجاح أو فشل الحوارات التي تجري بين قيادات حركتي فتح وحماس، على الرغم من التصريحات الإيجابية الصادرة عن مسؤولي الطرفين، إذ يبقى المشهد السياسي الفلسطيني مرتبط بتفاعلات السياسة الإقليمية والدولية، وهو ما يضعف من قوة أي حراك حالي يسبق الانتخابات الأمريكية المنعقدة في نوفمبر، بكل ما سيترتب عليها إقليمياً ودولياً.