مقالاتمقالات رأي

التحديات الوطنية قبل وبعد الوباء العالمي

شكل الانتشار العالمي لفايروس كورونا المستجد، تحدٍ استثنائي في التاريخ الحديث للبشرية، إذ أنه وعلى حين غرة، فاجئ الوباء العالم، بما في ذلك كبريات الدول وأكثرها تقدمًا، والتي لم تكن مستعدة  لمواجهة هذا التحدي، وهو ما أظهر ردود أفعالٍ حادة، بالإضافة لأفعال صراعية الطابع اتخذتها بعض الدول خلال الأسابيع الأولى من الأزمة، ولكنه على الجانب الآخر أظهر الحاجة الماسة للتعاون، في ظل النقص الكبير في الموارد والأدوات اللازمة لمواجهة المرض الذي عانت منه دول العالم قاطبة بلا استثناءات تذكر، فبدلاً من أعمال القرصنة على الشحنات الطبية، وجدت مختلف الدول ذاتها مجبرة على توحيد وتعميم سلوكيات طبية وصحية اعتبرت ناجعة نسبيًا في تخفيف حدة انتشار المرض وأضراره.

لم يكن يخطر على بال أحد أن الجميع في هذا العالم سيتشارك الانصات لنصائح الأطباء بهذا الالتزام، والامتثال لتعليمات الإدارات المعنية بهذه الدرجة، فلم يعُد هناك فارق ملموس في السلوك اليومي بين المؤيد والمعارض، وتجمدت مفاعيل تجاذبات و تحزبات، واصطفافات فئات مُتصارعة أمام هذا العدو الخفي والمستجد الذي أرعب العالم بانتشاره الواسع وفتكه المتواصل.

وبناءً عليه، فمن المهم لنا كفلسطينيين دراسة أهمية هذا التهديد الخطير الذي أنًّ العالم تحت وطئته، مما أجبره على تغيير سلوكياته وتطوير علاقات تقوم على مواجهة الأخطار بدل الانكماش إلى المصالح الخاصة التي تُشعل الفتن والحروب بين الأمم، وفي ظل هذا الوضع العالمي، ما هو متوقع من سلوكيات على المستوى المحلي لاجتياز تلك الحواجز بدون عوائق متعمدة، وهو ما يوصلنا إلى استنتاج حول ما يجب فعله من أجل تحويل النقمة الى نعمة.

فهذا الوباء الذي استدعى بخطورته تعاون العالم كله وتوحده لمكافحته يطرح التساؤل، أليس حريّاً بنا كشعب فلسطيني وفصائل أن نتوحد ونتكاتف مع بعضنا كي نواجه هذا الوباء ويكون فرصة حقيقية لإنهاء الانقسام؟

من المؤكد أننا كفلسطينيين أمام درس حول ضرورة التعاون في مواجهة المخاطر الكبرى، لكن هذا الدرس لم يكن استثنائيًا البتة في الحالة الفلسطينية، فالمخاطر المحدقة بشعبنا مستمرة منذ بداية المشروع الصهيوني، وقد زادت وطأتها في السنوات الأخيرة، لكن ما تثبته هذه الأزمة هو مقدار الصعوبة الناتجة عن هدر الموارد في أي اشتباك جانبي بين الأطراف الفلسطينية، وحجم القدرة الهائلة لدى الشعب الفلسطيني على جسر الفوارق وسد الثغرات، وبناء جدار وطني لمواجهة مثل هذا التحدي المميت.

فهناك فايروسات كثيرة ما زالت تنهش الجسد الفلسطيني للأسف، ليس بدءاً وانتهاءً عند فايروس كورونا،  بل ربما يكون الفايروس أضعفها وأقلها فتكًا بنا كمجتمع فلسطيني، فالحصار والاحتلال والانقسام كلها فايروسات وأوبئة تنهش في هذا الجسد، فمنذ شهور قليلة تتوالى سلسلة من التحديات والأخطار الكبرى أمام الشعب الفلسطيني تقضم حقوقه، مُثلت بإجراءات الاحتلال التوسعية والضم مروراً بإعلان صفقة القرن وصولاً الى هذا الوباء، وفي كل مرة من هذه التحديات يظن الشعب الفلسطيني بأنها قد تكون فرصة حقيقية لتوحيد نفسه، وتقريب وجهات النظر المتصارعة، والتفرغ لمواجهة هذه التحديات على قاعدة التضامن والوحدة، ليفاجئ بعدها بأن كل المبادرات والتحركات لا تتعدى العلاقات العامة تارة، وامتصاص غضب الجمهور تارة أخرى، دون أن تترجم عملياً على أرض الواقع لبرامج وخطط حقيقية.

إذ أن الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته الاجتماعية والسياسية لن يجد أفضل من تهديد هذا الوباء لتحويله الى فرصة، وذلك للمّ الشمل ورص الصفوف لمواجهة الكثير من الأزمات الأخرى التي ما زالت تنتظره، وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على أرضه، والذي يستغل كل فرصة لسلب المزيد من حقوق الشعب الفلسطيني، فهل الحل انتظار جائحة أكبر حتى يعيد النظر في أولوياته وسياساته؟ تلك التي لا تُقدم له سوى المزيد من التراجع والتشتت والتشرذم لأبناء الشعب الفلسطيني، التي تؤدي الى فنائه وسقوط مشروعه الوطني أمام التمترس خلف المواقف والمصالح الشخصية.

إن الوحدة السياسية هي أداة تستخدم لغاية أنبل وأهم، وهي الحفاظ على الإنسان الفلسطيني، كما الحفاظ على القضية والحقوق الفلسطينية، وهذه الأداة لأهميتها لا يمكن أن تبنى على أوهام أو خداع للذات، بل تحتاج بالأساس لصدق مع الذات وشجاعة وطنية لتجاوز كل المعيقات وفتح الأبواب التي بقيت موصدة طيلة المرحلة الماضية، وهذا أمر لن تفعله وثيقة جديدة توقعها الفصائل، بل بالأساس سيفعله ذلك التقارب الجاد بين القواعد الجماهيرية، حول برنامج مشترك، يتم العمل ضمنه لأجل مصالح حقيقية لكل انسان فلسطيني.

التحدي الذي فرضه الفايروس وتهديده للسلم العالمي ككل، والفرصة التي يحتويها بداخله، لابد من النظر إليه من الزاوية الأهم فلسطينيًا، وهو مجيئه في ظل تراجع القضية الفلسطينية إقليميًا ودوليًا منذ عقد من الزمن، كما أن الاهتمام العالمي بالوباء قلص من الاهتمام بالقضية الفلسطينية بشكل كبير، وذلك في ظل تحدٍ قريب شديد الخطورة، متعلق بتوجهات دولة العدو لضم أجزاء من الضفة الغربية وخاصة الأغوار، وهو الإجراء الذي لا يقل خطورة عن احتلال عام ١٩٦٧، وبالتالي وفي ظل هذا التراجع، لابد من تحقيق قفزات أمامية حقيقية في الواقع الفلسطيني الداخلي، مرورًا بالتعبئة العامة للمجتمع الفلسطيني، وليس انتهاءً بتحقيق درجة من الوحدة الوطنية والقيمية في العلاقة البينية بين الفصائل والقوى الفلسطينية.

هل يمكن فعلها هذه المرة؟

على الرغم من حالة الضعف الاستراتيجي التي عانها ويعانيها الشعب الفلسطيني، إلا أنه استطاع في محطات كثيرة ومتعددة مفاجئة العدو والقوى الإقليمية والدولية بخطواته على الأرض، وسعيه لتحرير أرضه وإثبات ذاته، فالانتفاضة الأولى، والانتفاضة الثانية، وحالات التصعيد والقتال المستمرة، كلها جاءت في ظل معطيات صفرية أحيانًا، وشديدة الصعوبة والقسوة أحيانًا أخرى، واستطاع أيضًا تحقيق منجزات سياسية وعسكرية، وهو ما يجعلنا أمام استحقاق تاريخي مبادر وشجاع، لتخطي هذه الأزمة وتحقيق على الأقل تقارب حقيقي بين القوى الفلسطينية، وترجمة ذلك لخطوات سياسية وكفاحية على الأرض، قد تفضي لتغيير نوعي واستراتيجي في الحالة الفلسطينية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق