المقاومة كحل، وكوسيلة للتوافق الفلسطيني
-
تمر الذكرى الثالثة لمسيرات العودة وكسر الحصار خلال هذه الأوقات، وخصوصًا ذروة هذا العمل في ١٤ مايو، والذي كان أكبر أيام المسيرات وأكثرها كلفة، إذ استشهد خلال هذا اليوم ٧٦ شهيدًا، وذلك في مسعى سكان القطاع لتخفيف الحصار عن أنفسهم وصولًا لإنهائه، وتذكيرًا بحق العودة الذي يتعرض للنسيان والتجاهل منذ عقودٍ من الزمن، لقد كانت مسيرات العودة الحدث الشعبي الأبرز والأكبر بعد الانتفاضة الثانية، إذ استطاع سكان القطاع حشد ما يزيد عن ١٣٠ ألفًا ثلاثة مرات تقريبًا خلال أعوام المسيرات، بالإضافة لاجتراح أدوات كفاحية فعالة وبأبسط الأدوات مثل الأطباق والبالونات الحارقة، وعمليات الإرباك الليلي.
كانت المسيرات ذروة التضامن الاجتماعي والسياسي في غزة، وكانت سببًا في حفظ مجتمع القطاع من مجموعة من الأزمات الداخلية، أهمها الاحتقان الداخلي الذي كان نتاج انعدام الأمل، وزيادة الضغط الاقتصادي بفعل الحصار وسلسلة الإجراءات العقابية من قبل السلطة الفلسطينية ضد القطاع، كما أنها خففت من درجة الحصار عبر مجموعة من التفاهمات التي كانت سببًا في فتح معبر رفح مع الجانب المصري، وادخال مساعدات مالية واغاثية مستمرة للقطاع، وإيجاد حلول لأزمة الكهرباء التي تفاقمت قبل بدء المسيرات، والأهم من ذلك، تعزيز مسار التقارب الفصائلي سياسيًا وعسكريًا، وهي القضية التي يعالجها المقال، على اعتبار المقاومة بشقيها، الضمان الأساسي لحفظ الجبهة الداخلية الفلسطينية، والطريقة المثلى لانتزاع المكاسب أيًّا كانت من العدو.
المقاومة فقط، أداة التوافق الفلسطيني الأبرز.
شكل العمل المسلح رافعة أساسية للقضية الفلسطينية منذ بدايتها، وبالتحديد منذ تأسيس منظمة التحرير وانضواء الفصائل الفلسطينية تحتها، مثل حركة فتح والجبهة الشعبية والديمقراطية، فعلى الرغم من التباين الفكري والأيديولوجي بين الفصائل والنخب الفلسطينية، إلا أن “المقاومة” كانت ركنًا أساسيًا من أركان التضامن والتوحد الفلسطيني، مع الإشارة إلى أن معظم حالات الاقتتال الداخلي كانت غالبًا بسبب شعور فصيل أو جماعة أو حتى تيار ما بوجود نية أو بوادر لتخلي معين على نهج المقاومة أو الكفاح المسلح حينها، وامكانية انخراطه في تفاهمات قد تفضي لتسويات سياسية يكون من ضمن أهدافها نزع سلاح القوى الأخرى واستهدافها، وهو ما حصل لاحقًا.
ومن هنا يمكن فهم مجموعة من الأحداث والسياقات التي مر بها المجتمع الفلسطيني بحد أدنى من الاقتتال الداخلي وذلك على الرغم من غياب أي سلطة أو قوة مركزية لضبط الأوضاع الاجتماعية والسياسية، فضلًا عن انتشار السلاح بأنواعه بين الفصائل الفلسطينية، فخلال الانتفاضة الأولى، استطاعت القوى الوطنية تأسيس “القيادة الموحدة” لإدارة العمل الانتفاضي في الداخل، بينما لم تنضوي حركتي حماس والجهاد الإسلامي ضمنها لأسباب أيديولوجية وسياسية، ولكن رغم ذلك، استطاعت القوى الفلسطينية تجاوز الكثير من محطات الخلاف، وأحيانًا الاقتتال-الذي وصل لحد سفك الدماء أحيانًا-بشكل مستمر، وكذلك الحال مع الانتفاضة الثانية التي أفرزت “لجنة القوى الوطنية والإسلامية” لتشمل الفصائل الإسلامية والوطنية، كبديل مؤقت عن منظمة التحرير-والتي كانت قضية سيطرة حركة فتح واعترافها باسرائيل-أحد أبرز أسباب رفض القوى الإسلامية الانضمام لها.
أما على الجهة الأخرى، جاء اتفاق اوسلو ليسبب انقسامًا حادًا وحقيقيًا في المجتمع الفلسطيني، ويخلق مجموعة من التشوهات الوطنية والسياسية ما زال المجتمع الفلسطيني يعاني منها حتى الآن، كما أنه زرع “بذور” الانقسام الحقيقي بين المكونات الفلسطينية منذ تلك اللحظة، وذلك بين قوى وطنية مركزية وأساسية رافضة للاتفاق بصيغته التي تم بها، وبين حركة فتح التي وقعته.
مسيرات العودة، ثلاثة ملامح للوحدة الفلسطينية.
على وقع انطلاق مسيرات العودة، وتطوراتها الدرامية على الأقل خلال السنة الأولى منها، أفرز سياق المسيرات مجموعة من ملامح الوحدة السياسية والعسكرية على الأقل في قطاع غزة، فبداية جرى تأسيس ما عرف “باللجنة العليا لمسيرات العودة وكسر الحصار” والتي تشكلت من معظم الفصائل الفلسطينية، وساهمت في تقليص حدة الاحتكاك السياسي وتقريب وجهات النظر بين تلك الفصائل في مجموعة من المسائل السياسية العالقة، مثل الموقف من منظمة التحرير، وتخفيف الحصار، والعلاقات البينية، أما الملمح الثاني، فكان تشكيل الغرفة العسكرية المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، والتي جاءت على إثر التصعيد الذي حصل في أغسطس ٢٠١٨، إذ أعلن ١٣ جناحًا مسلحًا دخول التصعيد تحت هذا المسمى، وقد كانت الغرفة المشتركة تقدمًا نوعيًا في مسار تنسيق العمل العسكري الميداني، ودعم الرؤية الميدانية لإدارة أي معركة عسكرية مع العدو.
أما الملمح الثالث، فكان التضامن الاجتماعي الواسع بين مختلف القوى الفلسطينية والقطاعات الشعبية والاجتماعية، إذ أنه وخلال الأعوام التي تلت دخول حماس للانتخابات الفلسطينية عام ٢٠٠٥، وتراجع حضور الخطاب السياسي للفصائل الفلسطينية، جرى الترويج لمقولات متعلقة بالفجوة بين الحاضنة الشعبية والمقاومة أولًا والفصائل الفلسطينية ثانيًا، وتراجع “التأطير السياسي” والدافعية الوطنية للمجتمع الفلسطيني، إلا أن المسيرات بحشودها الضخمة، واستمراريتها وديمومتها لثلاثة سنوات تقريبًا بحيث لم يقل الحشد عن ٢٠ ألف متظاهر أسبوعيًا، وهي أطول حشد شعبي في تاريخ الشعب الفلسطيني، لو أخذنا بعين الاعتبار بأن الحشد الشعبي للانتفاضة الأولى تراجع بعد سنتين تقريبًا ليتخذ بعدًا عسكريًا وتنظيميًا، كذلك الحال مع الانتفاضة الثانية، وهو ما يؤكد جاهزية المجتمع الفلسطيني لأي مواجهة مع العدو أولًا، واستيعابه للمقاومة وخيارها ثانيًا.
المقاومة في استطلاعات الرأي.
لو نظرنا لاستطلاعات الرأي التي تناولت الخيارات السياسية للمجتمع الفلسطيني، فسنجد بأن الكتلة الأكبر تدعم شكلًا من أشكال المقاومة، أي أن هنالك ٧٠٪ تقريبًا يؤيدون المقاومة بإحدى وسائلها المتنوعة، وخصوصًا الشعبية أو المسلحة، بينما الكتلة التي ترفض أي فعل مقاوم لا تتجاوز ٣٠٪ تقريبًا، وتنحصر أحيانًا إلى ٢٠٪، صحيح بأنه كان هنالك تفاوت ومد وجزر بين مؤيدي العمل المسلح، وبين مؤيدي العمل الشعبي، فتارة يرتفع خيار العمل المسلح، وتارة العمل الشعبي، إلا أن الأكثرية كانت غالبًا ما تختار العمل المسلح، وبنسب لا تقل عن ٤٠٪ تقريبًا، وذلك وفق استطلاع الرأي الأخير لمركز الفلسطيني للبحوث المسحية، فبحسب الاستطلاع الأخير الذي أجراه المركز، فقد بلغت نسبة تأييد العمل المسلح ٥٠٪، بينما بلغت نسبة تأييد المقاومة الشعبية ٢٢٪، أما خيار المفاوضات فقد بلغ ٢٠٪، وبالتالي فإن الكتلة الفلسطينية الأكبر تتجه لتأييد أشد أنواع المقاومة وأكثرها كلفة، مع الإشارة إلى أن هذه المعطيات تجيء في ظل انهيار بنية المقاومة في الضفة الغربية، ووجود جسم سياسي وأمني يتكون من بيروقراطية واسعة ترفض العمل المقاوم بأشكاله المختلفة مثل السلطة الفلسطينية، بالإضافة لما سبق، فمقارنة تأييد وحرص المجتمع الفلسطيني على أي انجاز للمقاومة يتفوق بمراحل على أي إنجاز سياسي بخصوص الحكم أو السلطة ووسائلها، فمثلًا، يبلغ تأييد قوة المقاومة ورفض تفكيكها في متوسط الاستطلاعات إلى ٧٠٪، بينما لا يزداد معارضي وجودها عن ٢٥٪، بينما العكس فيما يتعلق بوقف التنسيق الأمني، أو حتى حل السلطة، والذي تصل نسبة مؤيديه إلى ٤٥٪ في بعض الأحيان.
ختامًا.
يمكن ملاحظة حجم “التناقض” في البرامج السياسية بين الفصائل الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير وحركة فتح والسلطة في آن واحد، عبر متابعة المواقف من قضية تحديد العلاقة مع دولة العدو، وكيفية مواجهتها، وما المطلوب فلسطينيًا في سبيل ذلك، إذ أن المجلس الوطني، والمجلس المركزي، أقرّ في اجتماعاته سواءً تلك التي كانت في ٢٠١٥، أو ٢٠١٨، وقف الاتفاقيات الموقعة مع العدو، وخصوصًا ما يرتبط بالقضايا الأمنية، بالإضافة لتحديد تلك العلاقة، وهو الأمر الذي لم ينفذ حتى اللحظة من قبل السلطة الفلسطينية، مما تسبب في اشكاليات وخلافات واسعة، ما زالت تلقي بظلالها حتى اللحظة، في مقابل ذلك، فإن الحالة في قطاع غزة مختلفة بشكل واضح، إذ أن الخلاف مع الإدارة الحاكمة للقطاع ينحصر في جوانب معيشية وإدارية في المقام الأول، مع اختلاف يسير أحيانًا في بعض تكتيكات العمل المقاوم المتبعة، الأمر الذي قلص الهوة بشكل كبير بين مختلف فصائل العمل الوطني في قطاع غزة، وجعلها تتقارب بشكل واضح على كافة الصعد، بينما الحال في الضفة الغربية مختلف، الأمر الذي وصل لحد قطع مخصصات فصائل فلسطينية في منظمة التحرير، وملاحقات أمنية واسعة للحواضن التي من الممكن أن تقود أو تنفذ شكلًا من أشكال المقاومة.