أوراق سياسية

قراءة في تحالف غانتس – نتنياهو، الدوافع والأبعاد

ضجّت الساحة الإسرائيلية بثلاث جولات انتخابية في أقل من عام، ورغم تزايد حدة التقاطب في كل جولة انتخابية؛ فقد كانت النتائج متقاربة في الجولات الثلاثة، من حيث قوة ما عُهد على تسميته في إسرائيل باليمين واليسار. ورغم أن هذا التقاطب الحاد بين الكتلتيْن كان يمنع من التوافق على تشكيل حكومة؛ إلا أننا وبعد الانتخابات الأخيرة، وبين عشية وضحاها، شهدنا وكالعادة تبعثر ما سُمّي باليسار ويسار الوسط أمام جموح نتنياهو واليمين الإسرائيلي، قوة تبعثرت وتفككت لصالح تشكيل حكومة مشتركة بين رؤوس التضاد سابقًا، فما الذي يفسر هذا التحول الكبير؟

انتصار المصالح الشخصية
لم يكن مفاجئًا موافقة اليمين على تشكيل حكومة وحدة وطنية مع “أزرق أبيض” بعد التفكك الذي حصل للأخير، فلم يعد يمثل الحلفاء ذوو المواقف الحادة ضد المتدينين من أمثال يائير لبيد، كما أنه تنكر لكلّ التلميحات التي لها علاقة بالتقارب مع بعض متطلبات القائمة المشتركة؛ فالمتبقون في “أزرق أبيض” لا يختلفون عن أيّ عضو في حزب “الليكود” من الناحية الأيديولوجية، بل إن مبادئ حزب “الليكود” تلتقي تمامًا مع كل الشعارات التي يطالب بها “أزرق أبيض”، فلا خلاف بينهم على ضم مساحات كبيرة من الضفة الغربية، ولا خلاف بينهم على المركبات الليبرالية للحكم، ولا خلاف جديّ بينهم فيما يتعلق بمتطلبات الأمن ولا آلية التعامل مع تهديدات المحيط.
المشكلة الحقيقية كانت تتمحور حول شخص نتنياهو والعمل على إزاحته عن كرسي الحكم؛ هذا الشعار هو الذي توافقت عليه التشكيلات التي تكوّن منها “أزرق أبيض”، وحتى الأحزاب التي دعمته من الخارج مثل القائمة المشتركة و”العمل – غيشر” و”ميرتس”، لكن لم يكن ذات التوافق على جميع الأهداف، بحيث لو لم تحقق هدفها الرئيس (وهو التخلص من نتنياهو) يُمكن أن يبقى هناك ما يجمعها؛ ولذلك بعد ثلاث جولات انتخابية وصل غانتس إلى قناعته التي تردد كثيرًا في الافصاح عنها، وكانت التشكيلات التي تضم “أزرق أبيض” تمنعه من الاعتراف بها، وهو أن الاستمرار في مواجهة نتنياهو لن يحقق له أيّ نقطة أكثر ممّا حققه لحتى الآن، وأن استمراره في مصارعة نتنياهو هي عملية دوران حول الحلبة من الخارج، فيما نتنياهو يحدد كل شيء في الميدان، كذلك لا يوجد هناك ضمان يُبقي “أزرق أبيض” متماسكًا ويشكّل نواة صلبة لا يخترقها نتنياهو، خاصة وأنه كانت هناك محاولة من اليمين لاستمالة بعض أعضائه من تحت أنف غانتس للانشقاق عنه والانضمام إلى حكومة يمينية.
في المقابل، استطاع نتنياهو أن يشكّل حائط صدّ – من كلّ كتل اليمين – لا يُمكن اختراقه؛ فقد قدم لليمين كلّ شي، وبالتالي لم يجدوا قائدًا مثله يسلم لهم بذلك مقابل بقائه في رئاسة الوزراء، فكرسي الحكم بالنسبة له لم يعد مسألة سيادة ورئاسة، بل أصبح يشكّل طوق نجاةٍ يحميه من أن يختم تاريخه خلف قضبان السجن، ولذلك فهو حريص على أن تتم محاكمته خلال رئاسته للحكومة، فذلك يمنحه القدرة على تحديد جدول أعمال المحكمة، بل وأكثر من ذلك؛ وجوده في رئاسة الحكومة أتاح له توقيف عمل جهاز القضاء تحت بند الطوارئ مستغلًا شعار مواجهة جائحة الكورونا، كما سمح له بعرقلة أعمال الكنيست وعرقلة تشكيل لجانها. كذلك، الكرسي يوفر له حصانة ضد اتخاذ المحكمة قرارًا بسجنه؛ عندها سيبحث الائتلاف الحكومي مدفوعًا بغريزة البقاء عن قانون يساعد نتنياهو في البقاء على رأس النظام السياسي وعدم دخوله السجن.
ناهيك عن أن نتنياهو يفضل دائمًا ائتلافات معتدلة. وفي هذا السياق؛ عام 2009، أدخل تحت جناحيه ايهود باراك، وعام 2013 أعطى وزارة العدل لتسيبي ليفني، فهو (أي نتنياهو) وحزب “الليكود” ليسوا مضطرون لأن يبرروا موافقتهم المشاركة في حكومة وحدة وطنية مع “أزرق أبيض”، فقد قدمت عروض كثيرة لـ “أزرق أبيض” قبل الذهاب لجولة انتخابية جديدة، وكان غانتس وحلفاؤه يرفضون كلّ العروض. والآن، غانتس هو الذي أقدم على تغيير المسار وقبِل بأقل مما كان يطرحه عليه نتنياهو، متسببًا بانقسام وتشتت القائمة، والتراجع عن الشعارات التي رفعها، وهو الذي اضطر لأن يوضح لناخبيه ما الذي دفعه إلى هذا التنازل وهذا التحول؛ ففي تغريدة له على صفحته، كتب غانتس يقول “أعدكم أنتم أيضًا بأننا مستعدون لاتخاذ خطوات قاسية لمنع انتخابات رابعة. سنعمل على تشكيل حكومة تواجه وباء الكورونا وآثاره، ولكننا لن نتنازل في موضوع حماية سلطة القانون وحماية الديمقراطية في إسرائيل”.
الحقيقة الوحيدة التي يُمكن الحديث عنها هي أن كلّ من جاء مع غانتس حصل على حقيبة وزارية، وهذا عرض لم يحصل عليه أيّ حزب يشارك في حكومة وحدة وطنية. يُمكن القول بأن غانتس ومن معه قبضوا ثمن تدمير “أزرق أبيض”، وليس ثمن قوته الحزبية.

مستقبل التحالف.
القانون والقيم اللذيْن وعد غانتس ناخبيه بالحفاظ عليهما، لكنه ينضوي الآن هو وحزبه تحت قيادة أكبر معتدٍ عليهما في تاريخ الدولة، القانون الذي يتحدث غانتس عن حمايته هو الذي أساء إليه نتنياهو، وأساء إليه رئيس الكنيست عن “الليكود”؛ هذا القانون سيقف غانتس معه على مفترق طرق بعد عاميْن. وعندما يحين موعد تداول السلطة، ويصبح رئيسًا للوزراء، ستكون هناك عقبة تمنع نتنياهو من أن يكون وزيرًا (وفق قانون “درعي” الذي لا يمنع ممّن تحت طائلة الاتهام من أن يكون رئيسًا للوزراء، ولكن يمنعه من أن يكون وزيرًا)؛ سيكون أمام غانتس أن يختار بين تفكيك الائتلاف أو تجاوز هذا القانون والسماح لنتنياهو بأن يكون وزيرًا.
في نفس الوقت، سيُفكّر نتنياهو في أمر آخر وهو أن وجودة كوزير قد لا يمنحه حصانة من دخول السجن، ولذلك سيلجأ إلى الرجوع للنقطة الأولى التي هم فيها الآن؛ وهي الذهاب إلى انتخابات رابعة ولكن بعد عاميْن من استغلال غانتس وامتصاصه وتفكيك تحالفه؛ فليست سوى مسألة وقت حتى يتبين لغانتس، اشكنازي، بيرتس، شمولي ورفاقهم مجددًا من هو نتنياهو ومن أيّ مواد سياسية سامة مصنوع. عندها، سيختار غانتس البقاء مرة أخرى بشروط جديدة لنتنياهو، وسيفكك “أزرق أبيض” مرة أخرى لينجو بنفسه على طريقة الجنرالات السابقين أمثال ايهود باراك في تفكيكه لحزب “العمل” والارتماء في أحضان نتنياهو أو يعود إلى المربع الأول، وحين يعود إلى المعسكر ويطلب ثقته؛ سيتبين أنه لم يتبقَّ هناك من يصدقه ومن هو مستعد لأن يسير وراءه.

المعارضة الجديدة.
رفعه ليبرمان شعار عدم القبول بأقل من حكومة وحدة وطنية، متكئًا على إصرار غانتس برفض الانضواء تحت حكم نتنياهو أملًا في أن يتم استبدال نتنياهو من قبل حزب الليكود (حيث هذا هو هدفه الأساس)؛ لم يبقِ أمامه فرصة لدخول الحكومة، خصوصًا أن الحكومة المرتقبة هي حكومة وحدة وطنية من ناحية، وحكومة يشكّل النواة الأساس فيها المتدينون الذين وقفوا مع نتنياهو في الوقت الصعب وبهم استطاع أن يرغم غانتس على المجيئ؛ وبهذا فقد ليبرمان قوته ولم يعد شوكة الميزان، ولم يعد أمامه خيار سوى البقاء في المعارضة تحت قيادة يائير لبيد في انتظار تفكك التحالف الجديد. وإن كان هناك أمر إيجابي في تفكك تحالف “أزرق أبيض” من وجهة نظر ليبرمان؛ فهو أن القائمة المشتركة لم تعد تمثل المعارضة.
سعت القائمة المشتركة برئاسة أيمن عودة لكشف بعض الأقنعة عن وجه العمل السياسي لأقلية فلسطينية في دولة تعرف نفسها يهودية خالصة، واختارت – القائمة – أن يكون هدفها الأول العمل على إسقاط رئيس حكومة مسيطر على الحالة منذ أكثر من عشر سنوات، كانت الحركات والأحزاب الصهيونية قد يئست من استبداله، ولكن القائمة المشتركة (وبتأثير من السلطة الفلسطينية) قررت أن تخوض غمار التجربة، متطلعة لأن يحسن الجنرالات الصهاينة استغلال قوتها الصاعدة، عارضة نفسها بالتنازل عن مبدأ الحيادية بالتوصية على رئيس الحكومة أملًا منها أن تحقق – ولو لمرة واحدة – التحكم في تحديد رئيس الحكومة، لكنها أغفلت أن الأساس الذي قامت عليه الدولة – ولا يخالفه غانتس ورفاقه هو أفضلية العرق اليهودي، وغفلت عن أن هذا التدخل كان العامل الحاسم في تكاتف قوة اليمين ووقوفه بشدة وراء نتنياهو، في الوقت الذي تردد غانتس في الاقتراب من القائمة المشتركة كونها وصمة لن تنسى من تاريخه , كما لم تنسى لرابين رغم تاريخه عندما اعتمد على اصوات العرب في اقرار اتفاقية اوسلو خصوصا بعد أن استطاع نتنياهو فرض أجندة “شيطنة العرب”، من خلال تقسيم الكتل إلى كتلة صهيونية يهودية وكتلة صهيونية يسارية، والباقي القائمة المشتركة، حيث تناغم مع لبرمان في وصفها بالطابور الخامس.
كتب عاموس جلبوع في صحيفة معاريف: برأيي، أن الناتج الأهم لحسم غانتس هو أنه بضربة واحدة انتهى التعاون بين حزب صهيوني وبين قائمة مناهضة لإسرائيل، لاسامية، قومية فلسطينية متطرفة، غايتها تقويض إسرائيل كدولة يهودية، كدولة الشعب اليهودي. إن الفكرة المشوهة القائلة بتشكيل حكومة أقلية متعلقة بمثل هذه القائمة شُطبت تمامًا عن جدول الأعمال.

التحالف وصفقة القرن.
لا أحد يعرف، لحتى الآن، ما هي الآثار التي سيخلفها وباء الكورونا (Covid 19)، فقد خلق تهديدًا للبشرية يفوق كلّ تهديد متوقع، ويفوق التحديات التي تستعد لها الدول، وخصوصًا إسرائيل؛ فهي جائحة سياسية، اقتصادية وفكرية، وربما تترك مفاجآت مثل غياب شخصيات مركزية في إدارة الصراع، بل ربما تتحول دول اخرى في المنطقة الى دول فاشلة وقد تنقل الصراع إلى مستوى أعلى من التوتر أو العكس.
الوحيدون الذين يتحدثون الآن عن صفقة القرن هم المفاوضون الحزبيون بين نتنياهو وغانتس، على أي حال وبفرض أن البيئة اللاحقة للوباء تشبه البيئة الحالية، فمن المتوقع أن تحافظ السياسة الإسرائيلية في غزة على أمريْن أساسييْن: أولًا: الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني؛ لكي تبقى دائرة الكراهية الداخلية والمراوحة في المكان هي السمة الغالبة على الفعل الفلسطيني. ثانيًا: استمرار انشغال قطاع غزة في البحث عن لقمة العيش والبقاء فوق السطح قليلًا، وذلك كي لا تعتبر تجربة المقاومة في غزة ناجحة في نظر الفلسطيني، فعملية الضغط على السكان لا تسمح للقطاع بأن يتحرر أو أن يشكّل رافعة للمشروع الفلسطيني، ولا يمكنه الالتفات إلى القضايا الاخرى مثل الضفة الغربية والقدس.
أما الضفة الغربية؛ فقائمة “أزرق أبيض” حذرت في البداية من فكرة الضم، وكانت حجتها أن الجيش الإسرائيلي غير جاهز لتلك الخطوة، وكان التحذير من أن يعود ذلك بالضرر على مستقبل الدولة العرقي أو التحول إلى دولة أبرتهايد أو حتى التكاليف الاقتصادية لعملية الضم، وليس لأن هناك برنامج لدي “أزرق أبيض” يرفض الاحتلال والعنصرية والسيطرة على شعب آخر أو ان لديه خطوطًا عريضة ترتكز على خيار حل الدولتين , ليس لديهم مشكلة مع مطلب اليمين بعملية ضم مناطق من الضفة الغربية بعد موافقة الأمريكان، بالإضافة إلى شروط أخرى لا قيمة لها، مثل أن يتم ذلك بعد الانتهاء من وباء الكورونا وألا يكون أحادي الجانب؛ بل ضمن عملية سياسية واسعة، وعندما يتحدثون عن عملية واسعة؛ يقصدون عملية سياسية إقليمية تتجاوز للفلسطينيين، وليست عملية ترتكز على المفاوضات مع الفلسطينيين، وليس الرفض لضم الأغوار سوى خشية انهيار اتفاقية السلام مع الأردن.

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق