في مواجهة منظومة العقاب الجديدة
من المؤكّدِ أنّ ضرورة نجاةِ المجموع البشريّ الصامد في غزّة من أهوال الحصارِ الخانق، أولويّة ذات تأثيرٍ مباشر على مستقبل وقدرة الفلسطينيين فيّ مقاومة الاحتلال على امتداد بِقاع تواجدهم، هذه الضّرورة التي تُبصرها قيادة “فصائل المقاومة”، باتت آلية نفاذٍ يستخدمها المجتمع الدولي للاستثمار في الحصار وحصاد نتائج سياسيّة له، فتأتي الطُروحات الدولية الخاصّة بالتعاملِ مع “الأزمة الانسانية في غزّة”، كسياقٍ للإخضاع السّياسي، وفرضِ نموذجٍ للانضباط على أهل القطاعِ ومقاومته، يقوّض فعلهم السّياسي وتأثيرهم الحيّ في الوعيِ الفلسطيني الجمعي.
الطرح الدّولي بخصوص القطاع يقوم على مقايضة الخضوعِ -وليس التهدئة الميدانيةَ فحسب- فيّ مقابل مجموعةٍ من التقديماتِ المالية والتخفيف الجُزئي في قيود الحصار الخانقة، وفي هذا يُمكن قراءة آلياتٍ هادفة لتحويل البُنية الفصائلية المقاوِمة، لمنظومةِ إخضاعٍ للجمهور، ترتبط قُدرتها فيّ تلبيةِ احتياجاته المعيشيةِ الضرورية بمقدار خضوعها للشروطِ الدولية، وهو ما ينسجمُ مع مسعى دولي واحتلالي واسع النطاقْ، يهدفُ لتحويل البُنى الفلسطينية السياسية القائمة أينما حلّت لإداراتٍ محلّية، تُنزع منها أهدافها ومقولاتِها السياسية.
فيّ مواجهة هذا المسعى الدولي، المدعوم بثقلٍ إقليمي وإراداتٍ عربية، لا يمكن الرّكون لمنطق “صفقة” تُدير المقاومة مُكّتسباتها بما يخدمُ فُرص تعظيمِ قُدراتها المستقبلية على مواجهةِ الاحتلال. فالمسعى يرمِي لاستدخال منظومة اخضاعٍ اقتصادي للأفرادِ والجماعات، تقوم على فرزٍ سياسي للخاضعينْ، عنّ أولئكَ الضالعين في فعل التمرّد على الاحتلال، أيّ أنّنا نتحدثُ عنّ منظومة عقابيةٍ بالأساس يجري مساومة المجموع الشّعبي في غزة بجوع أطفالهم وبأرواح مرضاهم على قبول استدخالها، وأداةٌ لفكّ ارتباط الناس بالمقاومة.
كلّ ما سبق يقودُنا لمحاولةِ استذكارٍ مُشترك لطبيعة المقاومة أو قوام التّمرد الذي يُنتجه الفلسطيني اليوم، ويتركّز ثقله ككتلةٍ بشرية وأدواتٍ تنظيمية وعسكرية في قطاع غزة، فلا يُمكن الاستسلامُ للتّنظير لهذا الفعل كقيمةٍ مجرّدة، دونَ إبصار حوامِلها الحقيقية، تلك البيئة الجماهيرية التي رفضت الاستسلام للمفعولِ اليوميّ أو السياسي للاحتلال، وصَمّمتْ على مواجهتهِ بفعل احتكاكها اليومي السّلبي مع فعل القهرِ الاحتلالي، وأنتجتْ أدواتُها من فصائلٍ وأذرع عسكرية، وبُنى سياسيّة لتنظيم مجموع الإرادات الفردية السّاعية لمقاومة الاحتلال، وهذا تحديداً ما يستهدفه المجتمع الدولي بمنظومته العقابية الجديدة، الرّامية لتفكيكِ هذه الشبكة الهائلة، بلّ ويمكن استشراف دور “التسهيلات الدولية” كسباقٍ بين مسارينٍ يسعى أحدهما لتحويل البنى المُقاوِمة أداةَ ضبطٍ للجمهور الفلسطيني، ويسعى الآخر لابتزازٍ مُباشر لكلّ فردٍ في غزّة المُحاصرة لفكّ ارتباطه بالمقاومة أو مواجهة أدوات التجويع، التي ستنالُ منّ كلّ مَن ستُفرزه قوائم الاغاثة أو التشغيلِ كغير ملائمٍ أو ذا صلةٍ بالمقاومة، على غرارِ أولئك الذينَ صنّفتهم المنحة القطرية كمحجوبين في كشوفاتِها بسبب صلتهمْ بالمقاومة، أيّ أنّ أطراف الحصار باتت اليوم أكثر ميلاً للبدء في حصادِ نتائج الحصار، وتقوم بتصميمِ مشاريعها بغرضِ إحداث فرزٍ للكتلة السكانية الغزّية المُتمرّدة، ووضع كلّ فردٍ فيها أمام ابتزازٍ مباشر يلزمه بقطع صلتِه بأيّ فعل تمرد.
ليس منّ سوءِ الحظّ فحسب ولكن منّ سوءِ الادارة بالأساسْ، يُواجه مجتمعُ غزّة هذه الهجمة دون تحضيرٍ ملائم، فلقدّ ساهمت جملةٌ من سياسات الجهازِ الحكومي، فيّ تقويضِ بُنى وأدواتٍ اجتماعية ضروريّة لمواجهةِ مثل هذه السياساتْ، وذلك حين سعتْ هذه السلطة لإدارة القطاع بمنطقِ الحُكومة لا بمنطق الهيئةِ الخادمة لمتطلبات مجتمعِ الصّمود، وتمادت فيّ تأسيسِ بُنى سلطوية التحقت بها نخبٌ اقتصادية واجتماعية باتت عبئاً على مواردِ المقاومة وعلى صمودِ المجتمع، هذا كلّه يُفاقم التهديدَ المتمثّل في المنظومةِ الدولية الجاري السعيُ لادخالها للقطاع، ويتطلب صياغةً استراتيجية لا زالتْ غائبة لاعادةِ ترميم الروابطِ السياسية والاجتماعية بين مجتمعِ المقاومة وفصائلهِ وتعبيراتهِ السياسية.
المطلوبُ اليوم، الإصغاءُ الجادّ للمجتمع ولدعواه لمكافحةِ أشكال الارتزاق أو الإفسادِ التي التصقتْ فيّ أكثر من موضعٍ ببنى اداريةٍ وسياسية وفصائلية، والتأكيد على الالتزامِ الجادّ والمسؤول تجاه مختلفِ المكونات الاجتماعية، واحترامِ نقدِها وتَطلعاتِها لنموذجٍ أفضل في ادارة المُجتمعِ المحاصر في غزّة، وذلك منّ خلالِ فتح المجال العام أمام كلّ الفاعلين السياسيين.
إنّ عودة المقاومة كبنى وأجسامٍ وفصائل، للعنايةِ الحقيقية بالسياسات الصغيرة، التي تمسّ بالأفراد في مجتمعها هي ضرورةٌ حيوية، يشكّل غيابها أو التّقصير فيها مقتلٌ للجهدِ المكرّس للتصدّي للاحتلال، وافساحٌ خطير لمساحةٍ تستخدمها منظوماتُ الاخضاع وفرض الاستسلام، وهذا لا يتناقض مع ضرورة طرح استراتيجيةٍ وطنيةٍ تتجاوز الحيّز المحلّي وتهزمُ مسعى الاحتلال وحلفائه الدوليين والإقليميين لتقييد المقاومة به، فمصداقية ما يقدّمُ منّ مقولاتٍ سياسية او استراتيجية، تبقى مرهونةً بالنماذج المعبّرة عنها على مستوى أصغر الوحدات وأكثرها محلّية، وإنّ فعالية الأعمال التفصيلية والصُغرى في حيّ صغيرٍ منّ مخيم المغازي، تبقى مرهونة بالتزام المقاومة تجاه الفلسطيني في الجليلِ والنقب ومخيمات اللّجوء، والشتات، وبعبارةٍ أخرى، إنّ قدرة هذه المقاومة على الصمودِ ومُراكمة القوّة ترتهن بمدى التزامِها بالجمهور وتطلعاته وحقوقه الجماعية والفردية.