إسرائيل من الجيل القيادي الأول إلى الرابع.. وعودة ذات دلالة إلى الثالث
بدا ترؤّس بنيامين نتنياهو الحكومة السادسة في إسرائيل بمثابة عودة موصوفة إلى الوراء، فهو ينتمي إلى الجيل القيادي الثالث في الدولة العبرية، بينما ينتمي أسلافه (يئير ليبيد، ونفتالي بينيت، وبيني غانتس) إلى الجيل الرابع، علماً أن المقارنة بين دافيد بن غوريون (المؤسّس ورئيس الوزراء الأول)، ونتنياهو، أي بين الجيلين الأول والثالث، تبدو لافتة بحدّ ذاتها وتستبطن فكرة أن الأجيال القيادية، وحتى الدولة كلّها، قد تتوقف عند الجيل القيادي الثالث الذي يمثّله نتنياهو.
الجيل الأول المؤسس
ضمّ الجيلُ القيادي الأول والمؤسِّس الساسةَ والعسكر: دافيد بن غوريون، وحاييم وايزمان، وإسحق لافون، وأبا إيبان، وموشيه دايان، وإيغال يادين، وأيسر هرئيل، ويوسف بورغ – والد أبراهام بورغ أوّل من تنبأ بوصول إسرائيل إلى ما وصلت إليه – ممثلاً ما يعرف بتيار الصهيونية الدينية التقليدي القديم إلى جانب مناحيم بيغن الذي كان وصوله إلى رئاسة الوزراء منتصف السبعينيات بمثابة انقلاب ولكن ضمن الجيل القيادي الأول، وللمفارقة بدا وكأنه من جهة أخرى إعلانٌ رسميّ عن نهاية الجيل الأول لا مواصلة طريقه.
بن غوريون وماباي والعمل والكيبوتس
باستثناء يوسف بورغ، ممثل الصهيونية الدينية التقليدية المعتدلة بالمعنى الإسرائيلي، والتي لم تتدخل في السياسة بتفاصيلها وتجلياتها المباشرة، والذي شارك بانتظام في الائتلافات الحكومية طوال العقود الثلاثة الأولى (1948_ 1977) طوال الوقت، ومناحيم بيغن المعارض زعيم حزب حيروت – الليكود فيما بعد – انتمى الجيل الأول سياسياً وعسكرياً إلى حزب ماباي، المعراخ، حزب العمل فيما بعد، فقد نشأ جيل القادة في الكيبوتسات (المزارع التعاونية)، وكان أقرب إلى الفكر الاشتراكي الأوربّي طبعاً.
الجيل الأول، هو من قام بتأسيس الدولة وقيادتها، وتنفيذ المجازر لتشريد الفلسطينيين وتهجيرهم بالقوة، ودمج الأطر التي كانت قائمة بالفعل مثل الوكالة اليهودية، والمنظمة الصهيونية العالمية، وعصابة الهاجاناه، وتحويلها إلى مؤسسات رسمية للدولة.
إعلان الاستقلال واتفاق الوضع الراهن
الجيل الأول، أصدر إعلان الاستقلال الذي كان مختصراً جداً، وهدف إلى كنس التناقضات والخلافات، وتضمّن ما يعرف باتفاق الوضع الراهن، الذي سمح للمتديّنيين بممارسة حياتهم وشؤونهم (جلّهم لم يكن يعترف بالصهيونية)، وعدم الخدمة في الجيش للتفرّغ لتعلّم التوراة، ولكن شرط عدم التدخل في الحياة السياسية أو التأثير عليها. وهذا الأمر اختلف عبر الزمن في ظل بقاء الاتفاق كما هو، مع تزايد قوة المتديّنين غير الصهاينة أساساً وتحوّلهم إلى قوة مركزية في الحياة السياسية والحزبية في الدولة العبرية.
في غياب الدستور الدائم كان إعلان الاستقلال بمثابة الدستور المؤقت، ومحاولة للهرب من حسم الخلافات المتعلقة بهوية الدولة وطبيعتها، والعلاقة بين المؤسسات، وحتى حدود الدولة نفسها التي لم تُحدّد، وهذا الأمر يلقي بثقله الآن على الأزمات الداخلية التي تعاني منها، والنزاع بين السلطات الثلاث، ما أوصلها إلى حافة الحرب الأهلية، وهو ما حاول بن غوريون وجيل المؤسّسين تلافيه أو تأجيله على الأقل إلى أبعد مدى زمني ممكن، إلى حين ترسيخ بناء الدولة نفسها وتمتينها.
كان من أهمّ ما ترك هذا الجيل، أو تراثه، فكرة بن غوريون أيضاً القائلة إن الجيش هو جيش الشعب وبوتقة الصهر للمستعمرين المستوطنين المهاجرين القادمين من مختلف بقاع الأرض بلغات وثقافات مختلفة، ولذلك جعل التجنيد إجبارياً لكل فئات المجتمع، رجالاً ونساءً منذ سنّ 18 عاماً، ما عدا المتدينين، والعرب 48 طبعاً.
كان الجيل الأول كلّه من الأشكناز، أي اليهود الغربيين، وعلمانياً، حتى مع استخدامه الأساطير التوراتية لجذب اليهود للهجرة وتأسيس الدولة والكيان الاستعماري أرض الميعاد، بينما هي في الحقيقة قاعدة للاستعمار القديم – ثم الجديد – في فلسطين والحوض العربي الإسلامي بشكل عام.
من هنا سعى هذا الجيل (الماباي) المستحوذ على السلطة التنفيذية وحتى التشريعية بشكل تامّ لثلاثة عقود تقريباً إلى استقدام اليهود الشرقيين (من المغرب واليمن بشكل أساسي)، وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية وأيدٍ عاملة رخيصة للمشروع الذي يقوده الغربيون والعلمانيون، علماً أن تكاثرهم وزيادة قوتهم ونفوذهم عبر (شاس) وفي أحزاب أخرى مثل (الليكود) أدى أيضاً إلى الأزمة السياسية التي تعانيها إسرائيل حالياً.
وضع الجيل المؤسّس أيضاً، ويمثّله بن غوريون، النظريةَ أو العقيدة القتالية التي لا تزال معمولاً بها حتى الآن رغم التحديات الهائلة وتقادمها، والعجز عن بلورة أخرى جديدة، لافتقاد القيادة الثقيلة والوازنة، رغم طرح اجتهادات مثل نموذج غزة أو المعركة بين الحروب في سورية.
تضمّنت نظرية بن غوريون أو عقيدته ولا تزال ثلاثةَ أركان أساسية هي: الردع، أي بناء القوة ومراكمتها، بمعنى تخويف الأعداء ومنعهم حتى من التفكير في تحدّي إسرائيل أو مواجهتها، وذلك ببناء السور الحديدي لكن بالمعنى العسكري، علماً أن هذه النظرية هي لخصمه في الصهيونية الليبرالية زئيف جابوتنسكي (المرشد الروحي لمناحيم بيغن وحزب حيروت أو الليكود فيما بعد).
الركن الثاني للعقيدة القتالية، وفي حالة انهيار قدرة الردع أو تآكلها، القيام بحرب استباقية أو عند الضرورة القصوى، والاضطرار عبر حرب قصيرة خاطفة لأيام معدودة قليلة أو أسابيع معدودة، ونقل المعركة إلى أراضي العدو بعيداً عن القلب أو العمق الأمني البشرى الديموغرافي للدولة العبرية.
أما الركن الثالث فيتمثل بالالتصاق بالقوى العظمى: أمريكا بعد إنجلترا التي قدمت وعد بلفور ورعت التأسيس، وفرنسا التي بنت المفاعل النووي وقدّمت الأسلحة النوعية في الخمسينيات حتى منتصف ستينيات القرن الماضي، نتيجة للثورة الجزائرية ضدها، والبعد الاستعماري في سياساتها، مع استحضار فكرة أن زرع الدولة يهودية في قلب العالم العربي والإسلامي كانت أساساً للفرنسي نابليون بونابرت إثر فشله وانهيار حلمه الاستعماري على أسوار عكّا.
إضافة إلى ذلك ابتدع بن غوريون مفاهيم ومقولات سياسية لا تزال سارية، منها ضرورة تجاهل الأمم المتحدة المعادية لإسرائيل وهي وقراراتها محض قفر أو جدب حسب تعبير بن غوريون الحرفي. من هنا كان لا بد من البقاء دائماً بحماية دولة عظمى أو في ظلّها حتى داخل المنظمة الأممية نفسها، لا تستطيع التصرف بعيداً عنها، كما نرى مع الدرع الذي توفره الولايات المتحدة لها.
عرض الجيل الأول كذلك أو ادّعى عرض السلام على الدول العربية، واعتبار ذلك ركناً أساسياً في السياسة الخارجية، والانفتاح على التفاهم والصلح مع العرب، لكن مع الاعتراف ليس بإسرائيل وإنما بحقّها في الوجود، ما يعني شرعنة كل ما فعلته في فلسطين والدول العربية، لتأسيسها، من تشريد وقتل وتدمير وحروب ودمار.
الجيل الأول هو من وضع الأسباب والأسس للانتصار التاريخي والساحق في حرب 1967، الذي أسفر عن احتلال كل فلسطين وبضمنها القدس، إضافة إلى هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية. وكان بمثابة تحوّل استراتيجي في إسرائيل نفسها، وبداية الانزياح إلى اليمين والتطرف ببعده الديني، وصهينة المتدينين أو المتطرفين وقرارهم الانخراط الجدّي في الدولة ومؤسساتها، ولو بالحد الأدنى كما في الحياة السياسية والحزبية فيها.
مثّل ذلك، وللمفارقة نهاية للجيل القيادي الأول بطابعه اليساري العلماني بالمعنى الإسرائيلي طبعاً، وصعود اليمين المتطرّف والأكثر تطرّفاً بشقّه العلماني والدينى بقيادة حزب حيروت، (الليكود) فيما بعد.
رغم بداية المشروع الاستيطاني بعد حرب 67 وتمييز (ماباي) بين مستوطنات سياسية وأخرى أمنية في غور الأردن وسلسلة الجبال الغربية للضفة الغربية، غير أن المشروع خرج عن السيطرة بعد ذلك، وبات بمثابة مشروع استنزاف وأقرب إلى الانتحار، كما يتضح من رموزه الحاليين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
بعد الغطرسة والغرور إثر حرب 67 والانتصار الذي لا يصدّق، كانت هزيمة تشرين الأول (أكتوبر) 1973 ونهاية الجيل القيادي الأول ببعده العمالي، حتى مع التنفس الصناعي لبيغن ببعده اليميني المتطرف، وبالتالي باتت القصة مسألة وقت فقط حتى وصول الجيل القيادي الثاني إلى السلطة من مطلع الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات تقريباً، مع ملاحظة أن بقائه في السلطة استمرّ لعقدٍ ونصف العقد تقريباً، عكس الجيل الأول الذي استمر لأكثر من ثلاثة عقود.
الانقلاب حصل إكلينيكياً مع حرب 1967، والانتصار السهل والسريع الذي مثّل قمة صعود حزب العمل ونهايته أيضاً، وما صاحبه من غرور وغطرسة واستهتار، وهزيمة تشرين الأول (أكتوبر) 1973 التي أكدت أن بإمكان العرب إلحاق الهزيمة بإسرائيل، وبالتالي زوالها من الوجود، لأنها لا تتحمّل هزيمة واحدة، إذ ستكون الأولى والأخيرة لها أيضاً، حسب المقولة الشهيرة لبن غوريون. ثم وقع الانقلاب رسمياً في عام 1977 مع وصول بيغن وحيروت الليكود كممثل، أو من بقايا الجيل القيادي الأول الذي أصبح أكثر يمينية ودينية وشرقية، مع اعتماد الليكود على أصوات اليهود الشرقيين في السفرديم للوصول إلى السلطة.
غزو الغطرسة (1982)
مرّت خمس سنوات ووقعت نهاية الجيل الأول بشكل تام إثر مغامرة غزو لبنان 1982، والعجز عن هزيمة الثورة الفلسطينية ممثلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وإحباط رئيس الوزراء مناحيم بيغن واكتئابه واعتزاله الحياة السياسية لعدّة أسباب، منها شعوره بوصول المشروع ككل إلى طريق مسدود.
مثّل اتفاق السلام مع مصر كامب ديفيد (1978) ولا شك، أهمّ ما في تراث الشقّ أو الملحق اليميني للجيل الأول، الذي كان استمراراً لمطالب رؤية الجيل القيادي المؤسّس (ماباي)، بانتظار الاتصال من الدول العربية للتفاوض حول شروط الاتفاق، حسب تعبير موشيه دايان، من أجل نسف لاءات الخرطوم الثلاث: لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض، التي ظلّت شوكةً في حلق إسرائيل وحاجزاً صلباً أمام التطبيع والعلاقات مع دول العالم العربي بشكل عام.
في السياق، كانت لافتةً مراهنة بن غوريون على أن لبنان سيكون أول دولة عربية توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل لا مصر، غير أنه كان الثاني عبر اتفاق 17 أيار 1983 قبل أن تُسقطه قوى لبنانية أساسية، بدعمٍ كبير وجوهري من الثورة الفلسطينية والألق النضالي الذي خلقته هناك.
الجيل القيادي الثاني
مع إحباط بيغن ورحيله بدا الانتقال إلى الجبل القيادي الثاني ممثلاً بإسحق شامير_ حيروت (الليكود)، وإسحق رابين وشيمون بيريز (العمل)، ثم أرئيل شارون (الليكود)، لكن بعد مرحلة قصيرة فشل فيها الجيل الثالث ممثلاً بنتنياهو نفسه (الليكود)، وأهود باراك (العمل) على التوالي، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.
المرحلة الانتقالية بين الأجيال شهدت حالة تعادل بين الجانبين: العمل، والليكود، أثمرت حكومات وحدة وطنية معظم عقد الثمانينيات، تناوب على رئاسة الوزراء إسحق شامير، وشيمون بيريز.
واجه الجيل الثاني اندلاع الانتفاضة الأولى 1987، وانتقال الثورة الفلسطينية إلى الداخل، بعد الخروج من بيروت 1982 وانهيار أحد أهم أسس الأسطورة الصهيونية عن عدم وجود الشعب الفلسطيني، وأن فلسطين هي أرضٌ بلا شعب لشعب بلا أرض، وطرح خيارات سياسية مشتقة منها لحل الصراع، تضمنت الخيار الأردني لحزب العمل: التفاوض مع الأردن على شكل الحلّ؛ والوطن الأردني البديل لليكود – الأردن بديلاً لفلسطين، كما رأينا في شعار عصابة الأرجون التابعة له، والتي ظهرت خريطتها أثناء زيارة بتسلئيل سموتريتش الأخيرة إلى باريس.
اضطر إسحق شامير تحت ضغوط أمريكية ناجمة عن الرغبة في ترتيب شؤون المنطقة بعد حرب الخليج الثانية 1990 إلى الذهاب إلى مؤتمر مدريد 1991، ولكن من أجل التفاوض مئة عام دون التوصل إلى اتفاق، وإنما إدامة وإدارة الصراع تحت ستار المفاوضات.
بينما ذهب حزب العمل إلى أوسلو وواشنطن 1993 – طرق فرعية لمدريد – مع إسحق رابين وشيمون بيريز، من أجل التوصل إلى اتفاق سلام نهائي بالشروط الإسرائيلية، لأن الوقت لا يعمل لصالح الدولة العبرية، كما أقرّ رابين نفسه مع إشارته إلى أن جيش الاحتلال بات عاجزاً عن تحقيق الانتصار كما الماضي.
جاء اتفاق أوسلو ضمن قناعات خاصة سياسية وأمنية لرابين وفكرية وسياسة وخيالية لشيمون بيريز وشرق أوسطه الجديد تندمج فيه بل تقوده إسرائيل بالتطبيع مع الدول العربية، عبر اتفاقيات سلام مع الفلسطينيين والأردن، والسعي لاتفاقات مماثلة مع لبنان وسورية ضمن القاعدة نفسها: الأرض مقابل السلام، والإقرار بوجود إسرائيل بل حقّها في الوجود.
فشل الجيل الثاني
مثّل اغتيال رابين 1995 نهايةً لاتفاق أوسلو بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة الثانية 2000 وانفجار الشعب الفلسطيني في مواجهة الاتفاق الظالم، كما تنبّأ القيادي خالد الحسن_ رحمه الله_ نهاية الجيل القيادي الثاني في إسرائيل بشقّه العمالي أيضاً، والانتقال إلى الجيل الثالث لفترة قصيرة: خمس سنوات، عبر نتنياهو وباراك من 1996 إلى 2001 – ثم فشله والعودة إلى الجيل الثاني ممثلاً بأرئيل شارون 2001، باعتباره النسخة اليمينية الليكودية من الجيل الثاني، وكانت مرحلته كما بيغن إعلاناً عن نهاية الجيل الثاني برمّته والانتقال إلى الجيل الثالث ممثلاً بأهود أولمرت ونتنياهو، ثم الرابع ممثلاً بنفتالي بينيت، ويئير ليبيد، وبيني غانتس، قبل العودة المعبّرة والمخيّبة إلى نتنياهو مرة أخرى، كما سنفصّل في الورقة القادمة، بإذنه تعالى.