غير مصنفمقالاتمقالات بحثية

قراءة في معركة “سيف القدس” النتائج والتداعيات

قراءة في معركة “سيف القدس”

 النتائج والتداعيات


لقراءة المادة  “هنا

أعلنت الفصائل الفلسطينية وحكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي عن قبول العرض المصري بوقف إطلاق النار في غزة، بعد 11 يوم على إعلان الحكومة الإسرائيلية عن بدء عملية عسكرية من خلال سلاح الجو تستهدف قطاع غزة، وذلك في أعقاب ضربة صاروخية نفذتها كتائب القسام لمدينة القدس رداً على الاستفزازات الإسرائيلية في المدينة وعمليات التهويد هناك.

خلفية الأحداث: من الشيخ جراح إلى باب العامود.

خلال الشهور الماضية بات قرابة 25 عائلة فلسطينية تقطن في حي الشيخ جراح بالقدس، تواجه خطراً حقيقياً بالتشريد بعد قرارات متتالية للمحاكم الإسرائيلية إجلاءهم عن منازلهم بغية تسليمها لصالح الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية، حيث أخذت الأمور منحاً تصاعدياً مع تسليم السلطات الإسرائيلية إشعارات بالإخلاء لعدد من العائلات بناء على قرار المحكمة المركزية الإسرائيلية، ليحدث القرار موجة متصاعدة من الغضب الذي تراكم طيلة عقود سابقة نتيجة سياسات التهويد التي مارستها الحكومة الإسرائيلية ضد السكان المقدسيين.

بلغت حدة الغضب الشعبي ذروته مع دخول شهر رمضان المبارك، وازدياد الاستفزازات الإسرائيلية للفلسطينيين، فضلًا عن قطع شرطة الاحتلال كوابل مكبرات الصوت عن المسجد الأقصى في الليلة الأولى من رمضان، ثم محاولات إخلاء باب العامود من المصلين، ومنع إقامة الشعائر الدينية التي تقام سنوياً خلال شهر رمضان، لتبدأ مناوشات حقيقية بين المقدسيين من جهة والشرطة الإسرائيلية والمستوطنين من جهة أخرى، أسفرت عن تراجع السلطات الإسرائيلية عن قرارها بإغلاق باب العامود في وجه المصلين، بعد امتداد المواجهات لساحات المسجد الأقصى والمناطق المحيطة وكذلك حي الشيخ جراح، الأمر الذي شكّل دفعة معنوية كبيرة لصمود الفلسطينيين.

من تأجيل الانتخابات، إلى تهديد أبو خالد الضيف.

تزامن التصعيد في مدينة القدس، مع قرار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “أبو مازن” إلغاء الانتخابات العامة التي كان مقرر لها أن تنطلق في 22 مايو، بذريعة رفض الاحتلال الإسرائيلي إجراءها في القدس، وهو القرار الذي أجج الغضب الفلسطيني تجاه السلطة الفلسطينية، ومنح شرعية لدعوات الاشتباك مع دولة الاحتلال من أجل فرض الانتخابات في المدينة مع تصاعد حالة الغليان السائدة هناك.

فيما كان المتغير الأبرز الذي ساعد ربما في تطور مسار المواجهات، هو هتافات المقدسيين لقائد هيئة أركان كتائب القسام محمد الضيف “أبو خالد”، ومطالبات المقاومة في غزة بالتدخل، وهي المطالبات التي أثمرت لاحقاً بخروج نادر للضيف، عبر تصريح مقتضب هدد فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي “بدفع الثمن غالياً” حال استمر عدوانها على أهالي الشيخ جراح.

بتهديدات الضيف، تكون حماس قد قررت بشكل فعّال الانخراط في مواجهة التهديدات الإسرائيلية للسكّان المقدسيين وخاصة في حي الشيخ جراح.

وأخيرًا، بدأت المعركة.

بدت الأحداث تأخذ طابعاً أكثر سخونة مع استمرار المناوشات بين الفلسطينيين من جهة وشرطة الاحتلال والمستوطنين من جهة أخرى، وإعلان المستوطنين نيتهم إطلاق مسيرة الأعلام في ذكرى احتلال إسرائيل لشرقي القدس عام 1967، إضافة إلى التجهيز لما سمي “الاقتحام الكبير” للمسجد الأقصى بمشاركة أكثر من 30 ألف مستوطن، في يوم 28 رمضان، الموافق 10 مايو الذي شهد أحداثاً ساخنة أثرت في المشهد الفلسطيني ككل.

مع حلول ساعات المساء؛ أصدرت كتائب القسام على لسان الناطق باسمها “أبو عبيدة” تهديداً لدولة الاحتلال، أمهلها فيه حتى الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، لسحب الجنود والمستوطنين من المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، والإفراج عن كافة المعتقلين خلال هبة القدس خلال شهر رمضان.

تهديدات المقاومة الفلسطينية التي أمهلت فيه الاحتلال ساعتين عملياً لتنفيذ مطلبين أساسيين، قوبلت برفض إسرائيلي، حيث أصرت وزارة الداخلية على السماح بفعاليات مسيرة الأعلام للمستوطنين، مع قرار بتحويل مسار المسيرة تجنباً للاحتكاك بالفلسطينيين الذين رابطوا بالآلاف في المسجد الأقصى ومحيطه وكذلك حي الشيخ جراح.

وبعد دقيقية واحدة من انتهاء المهلة، أعلنت كتائب القسام عن توجيه ضربة صاروخية لمدينة القدس، تلاها إعلان سرايا القدس وفصائل المقاومة استهداف مواقع إسرائيلية في غلاف غزة، ليرد بعدها جيش الاحتلال بإطلاق عملية عسكرية ضد قطاع غزة سمّاها “حارس الأسوار“، استهلها بقصف عشرات الأهداف التي أسفرت عن ارتقاء شهداء بينهم أطفال، فيما لم يتأخر رد المقاومة كثيراً التي أطلقت بدورها عملية “سيف القدس” للرد على العدوان الإسرائيلي.

خلال المعركة، أطلقت المقاومة وفقاً لمعلومات إسرائيلية 4360صاروخ وقذيفة، فيما نفذ جيش الاحتلال غارات عنيفة ومكثفة بلغت أكثر 1800 غارة استهدفت في معظمها منشآت مدنية ومحمية بموجب قواعد القانون الدولي الإنساني، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 243 فلسطيني معظمهم من النساء والأطفال.

الانعكاسات السياسية والميدانية للمعركة.

يمكن القول أن التصعيد بين قوى المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس من جهة، ودولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، والذي يعتبر الأعنف منذ عدوان العام 2014، يختلف بصورة كبيرة في دلالاته وتداعيته عن أي جولات تصعيد وعمليات عسكرية سابقة، ويمكن إجمال الفوارق في جملة من المعطيات على النحو التالي:

  1. انسداد الأفق السياسي الفلسطيني:

جاء التصعيد بعد أقل من شهر على قرار رئيس السلطة الفلسطينية إرجاء الانتخابات إلى أجل غير مسمى بحجة رفض دولة الاحتلال إجراءها في مدينة القدس، وهو القرار الذي تسبب في إحباط كبير في الشارع الفلسطيني، الذي كانت عينه ترقب الأحداث في القدس مع قرار المحكمة المركزية الإسرائيلية إجلاء عدد من العائلات في حي الشيخ جراح في المدينة.

اتهم العديد من النشطاء الفلسطينيون فضلًا عن بعض الفصائل والنخب الفلسطينية السلطة بالتذرع بمسألة القدس من أجل إلغاء الانتخابات لحسابات داخلية فتحاوية، وقد عزز تلك الاتهامات عزوف السلطة الفلسطينية عن المبادرة بأي وسيلة ضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل فرض الانتخابات في القدس، كمطلب شعبي وفصائلي فلسطيني.

  1. مواجهة على امتداد فلسطين التاريخية:

يمكن اعتبار أن أحد أهم النتائج المترتبة على التوترات الأخيرة وخاصة دخول غزة على خط المواجهة، هو الالتحام الشامل لكافة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة مع دولة الاحتلال، أبرزها المواجهات التي شهدتها مدن داخل الأراضي المحتلة عام 1948، مثل عكا وحيفا واللد وبئر السبع، وهي المواجهات التي وصفها رئيس دولة الاحتلال رؤوفين ريفلين بأنها حرب شوارع، للمرة الأولى في تاريخ الصراع مع دولة الاحتلال.

تشير دلائل تلك المواجهات بوضوح إلى فشل السلطات الإسرائيلية في تدجين المجتمع العربي في الداخل المحتل، فيما بدا أن تلك المواجهات لم تكن سوى تعبير عن غضب راكمته عقود من التهميش والإقصاء والاحتواء والفصل العنصري بين العرب واليهود داخل الأراضي المحتلة.

  1. تقدم لحماس على حساب فتح:

أبرزت أحداث القدس الأخيرة دور حماس الكبير في قيادة الفعل الوطني المناهض لمحاولة التهجير والتهويد في مدينة القدس، بكل ما يحمله ذلك من دلالات تتعلق بتثبت شرعية الفعل المقاوم في الداخل والخارج، وحصول حماس على إجماع شعبي غير مسبوق في تصعيدها العسكري ضد إسرائيل، بالتوازي مع اهتزاز الموقف الرسمي لحركة فتح والسلطة الفلسطينية التي خرج رئيسها في مؤتمر للقيادة الفلسطينية خلال أيام العدوان، شدد فيه على أهمية القدس بالنسبة للفلسطينيين، وهو الخطاب الذي بدا من مفرداته أنه لحوقاً بالركب بعد تصاعد الأحداث في كل من القدس والداخل المحتل إضافة إلى قطاع غزة، فيما لم تصدر عن السلطة الفلسطينية أي مواقف قوية يمكنها التأثير في مجريات الأحداث الدائرة على الأرض.

مثّل الموقفين الإقليمي والدولي أبرز تجليات الاعتراف بحماس كقوة مؤثرة وفاعلة في المشهد الفلسطيني، ففي حين تكثفت الاتصالات المصرية بالحركة، إضافة إلى اتصال هو الأول من نوعه بين مسؤول أردني ورئيس المكتب السياسي لحماس، فقد أيدت جهات دولية خاصة في الاتحاد الأوروبي، إجراء مباحثات مع الحركة الموضوعة على قوائم الإرهاب لدى الاتحاد.

كما حمل الموقف الأمريكي من حماس دلالات جديدة، فرغم التأييد المطلق لدولة الاحتلال، وإدانة المقاومة في غزة وعلى رأسها حماس، فقد بدت تصريحات المتحدث باسم البيت الأبيض، التي أشار فيها إلى الاتصالات بشأن التهدئة ووجود جهات يمكنها “أن تقنع” حماس بالتهدئة، دليلاً على القناعة الأمريكية بعدم مقدرة دولة الاحتلال على حسم المعركة مع الحركة، بما قد يفتح المجال أمام تعامل أمريكي غير مباشر مع الحركة مستقبلاً.

من خلال التصعيد الأخير؛ وبروز دور حماس القوي فيه وخروجها بصورة المدافع عن القدس والثوابت الفلسطينية، تصبح الحالة السياسية الفلسطينية أمام استحقاق جديد، يفرض نفسه بوجود حماس بصفتها لاعبًا مؤثرًا في المشهد الداخلي وفي العلاقة مع الاحتلال، لن يؤدي تجاهله إلا إلى مزيد من التوترات في المنطقة، وهو الاستحقاق الذي قد يحدث تحولاً كبيرًا في التركيبة السياسية الفلسطينية وعلاقات الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة بحماس وكيفية تعاطيها معها.

  1. التنسيق الفعّال بين قوى المقاومة في غزة:

منذ الإعلان عن تأسيس غرفة المقاومة المشتركة عام 2018؛ شهد التنسيق بين القوى المنضوية تحت لوائها تحدياتٍ طرحت أسئلة حيال إمكانية استمرار عمل الغرفة وعدم تفككها، كان أبرزها عام 2019 أعقاب اغتيال القيادي في سرايا القدس بهاء أبو العطا، وعدم مشاركة كتائب القسام في جولة القتال التي استمرت عدة أيام.

ورغم اتحاد فصائل الغرفة المشتركة في صد العدوان الإسرائيلي خلال السنوات الماضية، إلا أنها المرة الأولى التي تشهد تنظيماً منضبطاً ومتكاملاً بين الفصائل خاصة كتائب القسام وسرايا القدس، ففي حين كانت المرة الأولى التي تتفق فيها قوى المقاومة على تسمية موحدة للمعركة، وهي “سيف القدس”، فقد شهد الفعل الميداني أيضاً تنسيقاً لا يقل أهمية، بدأ فيه بقصف كتائب القسام لمدينة القدس، لتتبعه سرايا القدس بقصف آخر لمستوطنات غلاف غزة، إضافة إلى استهداف مركبة إسرائيلية بقذيفة موجهة.

كما كان لافتاً منذ الساعة الأولى لبدء المقاومة ردودها على الاحتلال، الالتزام الفصائلي التام بالمهل التي تمنحها المقاومة لإسرائيل، والتي لم تتعرض في أي منها لخرق من فصيل آخر، تجلت بصورة أساسية في المهلة الاولى قبل استهداف مدينة القدس وبدء التصعيد، مع بقاء هامش في حرية العمل مفتوحاً لكافة الفصائل، وبقاء تلك العمليات محكومة بعوامل التنسيق حول حجم وكثافة النار وكذلك المدن المستهدفة داخل الأراضي المحتلة، وانتهاءً بالساعة الأخيرة التي سبقت التهدئة، بتحذيرات الناطق باسم كتائب القسام دولة الاحتلال من مغبة ارتكاب أي عدوان قبل دخول التهدئة حيز التنفيذ، وإعلان غرفة العمليات المشتركة للمقاومة أن كلمة “أبو عبيدة” كانت نيابة عن عنها وبالتوافق بين كل مكوناتها.

  1. فشل استخباري وميداني:

كما كشفت الأيام الأولى للتصعيد عن ضعف استخباري إسرائيلي واضح، بدأ بإقرار كتاب ومحللين إسرائيليين بفشل التنبؤ بما ستجره الاستفزازات المتكررة في مدينة القدس من رد فصائلي غير مسبوق، فيما كانت تشير المعطيات الميدانية أيضاً إلى عجز أكبر في لجيش الاحتلال في اصطياد الأهداف، عبّر عنه العدد الكبير من الشهداء المدنيين، واستهداف الأبراج السكنية والمنشآت المدنية التي أدى استهدافها إلى موجة انتقادات واسعة لدولة الاحتلال.

كما تشير معطيات عديدة إلى فشل في الأداء الميداني لجيش الاحتلال الإسرائيلي، ترتب عليه عجز واضح عن اقتناص دولة الاحتلال لصورة النصر، إذ لم تنجح المحاولات الإسرائيلية في تحييد خطر الصواريخ خاصة البعيدة منها، فيما تجلت أبرز صور الإخفاق الإسرائيلي خلال عدوانه على غزة بالاعتراف بفشل خطة  كان قد تدرب عليها الجيش منذ ثلاث سنوات، كانت تستهدف قتل المئات من عناصر كتائب القسام، عبر محاولة فاشلة لاستدراجهم إلى الأنفاق التي استطاعت إسرائيل تحديدها شمال قطاع غزة، وإمطارها بعاصفة من الغارات الجوية والقصف المدفعي.

تكشف التقارير العبرية بعد انقشاع غبار المعركة؛ عن فشل وإحباط كبيرين انتابا قادة دولة الاحتلال، مع إقرار بأن استهداف المدنيين والأبراج السكنية، لم يكن سوى أحد تجليات ذلك الإحباط الناجم عن عدم القدرة على استهداف قادة المقاومة التي نجحت في الاستمرار في إطلاق الصواريخ بكثافة على المدن والبلدات في الأراضي المحتلة، كما أسهبت الصحافة العبرية في سرد التحليلات التي شككت في جدوى العملية العسكرية ضد قطاع غزة عبر الإشارة إلى محدودية تأثيرها على قدرات المقاومة.

  1. التطبيع مع دولة الاحتلال؛ مشاريع في مهب الريح:

أثارت الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية ابتداء من أحداث حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى، وصولاً إلى الحرب في غزة، عدة أسئلة حيال جدوى التطبيع وأهميته، إذ يمكن اعتبار أن دولة الاحتلال خرجت بخسارة فادحة جراء الأحداث المتتالية في فلسطين، ويمكن إجمال أبرز الخسائر الإسرائيلية في عدة محاور:

  • الرفض الشعبي للتطبيع: أعادت الأحداث في مدينة القدس وكذلك قطاع غزة، القضية الفلسطينية على سلّم أولويات الشعوب العربية، بعد سنوات طويلة من التراجع بفعل التغيرات الإقليمية التي طرأت على المنطقة خاصة خلال العقد الماضي.

فيما أشارت تقارير دولية عديدة؛ إلى ارتفاع الصوت الشعبي الرافض لمسار التطبيع، خاصة في الدول المطبعة حديثاً (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان)، ففي حين اندلعت مظاهرات مؤيدة لفلسطين في كل من المغرب والسودان، فقد أظهرت منصات التواصل الاجتماعي تصاعد حدة الانتقادات الموجهة ضد التطبيع بما فيها من نشطاء دولتي الإمارات والبحرين اللتان تمنعان أي أنشطة سياسية على أراضيهما، مع انحسار للموجة المساندة للتطبيع من قبل النشطاء المحسوبين على الدول المطّبعة خاصة الإمارات التي كانت تروج دائماً إلى أن التطبيع مثّل رغبة شعبية في المقام الأول، فيما قادت السعودية التي نظر لها على أنها وجهة مستقبلية للتطبيع، زمام المبادرة في إدانة “الانتهاكات الصارخة” بحق الفلسطينيين، وذلك خلال جلسة لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشان العدوان الإسرائيلي على غزة، كما تشير بعض التحليلات إلى أن الرياض باتت مرتاحة لقرارها عدم التطبيع مع الاحتلال رغم الضغوط الأمريكية سابقاً، كونها أعفت نفسها من الحرج الذي تراكم على الدول المطبعة بعد الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية.

  • البعد الأمني: أثير العداء المشترك لإيران كأحد أسباب حرص دول خليجية للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ رأت عواصم خليجية تكن العداء لطهران، إلى كون “إسرائيل” هي الجهة القادرة على مواجهة إيران، متسلحين برصيد كبير من الضربات العسكرية والسيبرانية الناجحة التي وجهتها تل أبيب ضد أهداف إيرانية في الداخل والخارج، كما كانت الصناعات الدفاعية العسكرية الإسرائيلية مثل القبة الحديدية محط إعجاب خليجي، إذ كانت قد أشارت صحيفة سعودية عن توقيع الرياض اتفاقية مع تل أبيب لشراء منظومة القبة الحديدية بوساطة أمريكية، وفيما نفت حينها دولة الاحتلال الخبر، لم يصدر تعقيب عن السعودية، حيث تجدد الحديث عن القبة الحديدية في الخليج بعد موافقة إسرائيلية على نشر المنظومة في عدد من القواعد الأمريكية بمنطقة الخليج، وهي الموافقة المدفوعة بتوقيع اتفاقيتي التطبيع مع كل الإمارات والبحرين.

خصمت المواجهات الأخيرة مع غزة من الرصيد الكبير للقبة الحديدية، الذي جاء بفعل الدعاية الإسرائيلية التي استهدفت أسطرة المنظومة باعتبارها فخر الصناعة الإسرائيلية، إذ استمر تهاطل الصواريخ على مدن وبلدات دولة الاحتلال، وتسبب الكثير منها في خسائر مادية وبشرية، وما استتبع معه من حديث بشان عيوب القبة الحديدية أبرزها عدم القدرة على التعامل مع كثافة عالية من الإطلاقات الصاروخية، إضافة إلى إعلان الاحتلال عن خلل فني أصاب منظومة القبة الحديدية جعلها تفشل في اعتراض الصواريخ القادمة من غزة.

كشف التصعيد الكبير في غزة، عن هشاشة إسرائيلية في التعامل مع الجهة الأضعف عسكرياً من بين الجهات المعادية الأخرى (إيران، حزب الله)، ففي حين عجزت دولة الاحتلال بكل ما تملكه من تكنلوجيا عسكرية عن حماية نفسها من بضعة مئات من الصواريخ، فإن سؤالاً كبيراً قد يطرح حيال ما يمكن أن تقدمه للدول التي تقف معها في نفس خندق العداء مع إيران فيما لو اندلعت مواجهة كبرى في المنطقة، وهو السؤال الذي يبدو أنه تبادر إلى بعض تلك الجهات خاصة في السعودية، عبر تشكيكها بقدرات القبة الحديدية بعد خضوعها لتجربة حقيقة في مواجهة صواريخ المقاومة.

  • التأثير على المشاريع الاقتصادية: كان العامل الاقتصادي أحد الدوافع المهمة لدخول الإمارات في اتفاق تطبيع مع دولة الاحتلال، فيما كان التركيز الأبرز على قطاع الطاقة الذي شهد توقيع اتفاقيتين كبيرتين بين الجانبين، الأول في أكتوبر 2020، بُعيد إبرام اتفاق التطبيع وينص على مساعدة شركة خطوط الأنابيب الإسرائيلية “إي أيه بي سي” (EAPC)، في نقل النفط من الإمارات إلى أوروبا عبر مشروع خط أنابيب إيلات_عسقلان، فيما كان الاتفاق الثاني الموقع في إبريل من العام الجاري وباعت بموجبه شركة “ديليك دريلينج” الإسرائيلية، حصتها في حقل تمار للغاز الطبيعي بشرق البحر المتوسط، الذي يبعد عن شاطئ غزة 20كم، لشركة مبادلة للبترول إحدى شركات الصندوق السيادي لحكومة أبوظبي، مقابل 1.1 مليار دولار.

خلال التصعيد الأخير؛ تحول محور المشروعين إلى هدف للمقاومة، حيث اعلنت كتائب القسام عن استهداف مشروع خط أنابيب إيلات_عسقلان بوابل من الصواريخ، أدى إلى اشتعال النيران في صهاريج “كاتسا” جنوب عسقلان، حيث بقيت النار فيها لأكثر من 24 ساعة، تبعه بأيام قليلة استهداف كتائب القسام حقل تمار للغاز الطبيعي بالصواريخ، تسبب في توقف المنصة عن العمل.

أحدث استهداف مشروع خط الأنابيب في عسقلان ضربة عميقة لجهود “إسرائيلية” ركزت للترويج للمشروع بزعم مميزاته العديدة وأهمها مسألة توفيره الكثير من الوقت، واعتباره أقل تكلفة من قناة السويس، وأكثر أماناً من الطريق التقليدي الذي يمر عبر مضيقي هرمز وباب المندب إلى أوروبا.

باستهداف المشروع، بدا أن التفكير بالاستثمار فيه سيتحول إلى مجازفة محفوفة بالمخاطر، في ظل إثبات المقاومة قدرتها على تعطيل مصالح الاحتلال المختلفة خاصة الاقتصادية منها، وفي حين لا يتوقع أن تتخلى أبو ظبي عن استثماراتها في المشروع، فإنه قد يقضي على آمال دولة الاحتلال الإسرائيلي التي كانت تمني نفسها بإمكانية مشاركة السعودية فيه عبر بناء خط أنابيب على أراضيها يصل إلى الخط الإسرائيلي.

  • انقضاض دولي على صفقة القرن: فرغم عودة الخطاب الدولي بشأن حل الدولتين مع وصول الديمقراطيين مجدداً إلى البيت الأبيض، وتصريحات الأطراف الدولية والإقليمية المتعلقة بالصراع الفلسطيني مع دولة الاحتلال، إلا أن المطالبات الدولية بهذا الحل، قد تكثّفت مؤخراً خلال التصعيد الأخير بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، آخرها تعبير دول عديدة خاصة الكبرى والمؤثرة، عن دعمها حل الدولتين وذلك خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي ناقش الأحداث في الأراضي الفلسطينية خاصة قطاع غزة، قبيل ساعات فقط من الإعلان عن وقف إطلاق النار.

أثارت مشاهد التصعيد في قطاع غزة، موجة من الانتقادات لصفقة القرن وما قادت إليه من تطبيع أربع دول عربية مع دولة الاحتلال، متجاهلة الفلسطينيين وحقوقهم بالمطلق، إذ رأى البعض أن التوتر الذي قاد إلى ما وصلت إليه الأمور في غزة، جاء كنتيجة لقضايا تجاهلتها صفقة القرن، خاصة فيما يتعلق بالقدس.

كانت مقاربات كل من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والحكومات العربية التي انضمت إلى حظيرة التطبيع، تتعلق بإمكانية تجاوز الفلسطينيين للوصول إلى تطبيع شامل مع العالم العربي من جهة، وتراجع الالتزام العربي خاصة في بعض دول الخليج بالقضية الفلسطينية لصالح قضايا أخرى أبرزها تحدي النفوذ الإيراني ومجابهة الإسلام السياسي من جهة أخرى، غير أن التوترات الأخيرة التي انطلقت في القدس لتنتشر في عموم الأرض الفلسطينية وتستقر في غزة، قد أفسدت تلك المقاربات، فيما باتت التقديرات تشير إلى تجاوز السياسة الإقليمية فعلياً صفقة القرن وتبعاتها، خاصة مع فشل جهود الإدارة الأمريكية السابقة في ضم دول أخرى إلى اتفاقيات التطبيع.

  1. الموقف المصري من الأحداث:

أثار الموقف المصري من الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية الكثير من التساؤلات حيال أسباب التحول المصري الذي بدا لافتاً في طريقة وحجم دعم الموقف الفلسطيني في القدس وقطاع غزة، حيث اتخمت منصات التواصل الاجتماعي بالمقارنات بين موقف الدولة المصرية في حرب غزة عام 2014 والتصعيد الأخير، والتي توجت أخيراً بتوجيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتخصيص 500 مليون دولار لإعادة إعمار قطاع غزة.

يمكن القول إلى وجود جملة من الأسباب التي دعت مصر إلى اتخاذ موقف من الأحداث في قطاع غزة رآه إيجابياً ومتقدماً مقارنة بالموقف من حرب 2014، وهي:

  • تطور العلاقة مع حماس: شهدت السنوات الأربع الماضية، تطوراً مضطرداً في علاقة السلطات المصرية بحركة حماس، بعد سنوات من التوتر بين الطرفين عقب الانقلاب الذي أطاح بالرئيس السابق د.محمد مرسي، وقد ساهمت فعاليات مسيرات العودة الكبرى وكسر الحصار، في تكثيف الدور المصري في قطاع غزة، وقدرتها على كبح جوامح التصعيد بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال، كما عززت القاهرة نفوذها في غزة من خلال سماحها ببقاء الشريان الاقتصادي للحكومة في غزة، المتمثل بالمعبر التجاري في معبر رفح، بما وفر المورد المالي الرئيس والأهم لتغطية نفقات الحكومة بما فيها رواتب موظفيها هناك.
  • اتفاقيات التطبيع؛ ومحاولات تجاوز مصر: مع انضمام دول أخرى إلى نادي التطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كانت الأنظار المصرية تتابع بعدم ارتياح تصاعد التعاون الإماراتي مع دولة الاحتلال، خاصة بعد توقيع اتفاق نقل النفط الإماراتي إلى أوروبا عبر مشروع إيلات_عسقلان المشار إليه أعلاه، والذي رأى فيه البعض منافساً بصورة نسبية لقناة السويس، ورغم تقليل مصر من تأثير الخط على القناة، إلا أنها لم تنفِ تأثير المشروع بالمطلق، حيث من المتوقع أن يؤدي تشغيله إلى التأثير على قناة السويس بنسبة تصل إلى 16% من حجم تجارة البترول الخام المتجهة شمالاً، فيما رأى بعض المسؤولين المصريين أن للمشروع تداعيات سلبية على الأمن القومي المصري.

ربما رأت القاهرة في سلوك كل من تل أبب وأبو ظبي، تجاهل تام للمصالح القومية المصرية، الأمر الذي أثار حفيظتها وربما غضبها، فيما يتوقع أنها تابعت بعين الرضا تقارير استهداف المقاومة لمشروع خط الأنابيب “الإماراتي_الإسرائيلي”.

  • تعزيز حضور مصر الدولي: مع اندلاع التصعيد الأخير في قطاع غزة، باتت تتجه الأنظار إلى الدور المصري بصورة خاصة، كونها الطرف الأقدر على التفاهم والتأثير على قوى المقاومة في قطاع غزة خاصة حركة حماس، وهي الرؤية التي أيدها استقبال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالاً من الرئيس الأمريكي جو بايدن، للمرة الأولى منذ وصول الأخير إلى الرئاسة في أمريكا، حيث انصب النقاش على جهود وقف إطلاق النار في قطاع غزة.

ومع نجاح جهود وقف إطلاق النار، بدا حجم إدراك الإدارة الأمريكية لتأثير مصر في المشهد الفلسطيني والغزيّ تحديداً، ترجمه إبداء الرئيس بايدن امتنانه للرئيس عبد الفتاح السيسي على دوره والمسؤولين المصريين “الحاسم” في جهود وقف إطلاق النار، وذلك في تعقيبه على إعلان الهدنة.

  • العامل الاقتصادي: يبدو أن العامل الاقتصادي يتضافر مع جملة الأسباب التي تدفع مصر إلى توسيع تفاعلها مع قطاع غزة، فبعد أقل من شهرين على انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014، استضافت القاهرة مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار قطاع غزة، نتج عنه تعهدات دولية وإقليمية بأكثر من 5 مليار دولار لذات الهدف، حيث شهدت عمليات الإعمار عقبات عديدة تسببت في بطئ كبير في وتيرة إعادة بناء ما دمره العدوان الإسرائيلي، أبرزها القيود التي فرضتها تل أبيب، والقيود المفروضة أيضاً من الجانب المصري، وتراجع عدد كبير من الجهات المانحة عن التزامتها التي تعهدت بها، وأخيراً الانقسام السياسي الفلسطيني الذي أدى إلى نشوب خلافات بين سلطة رام الله وحركة حماس بشأن الإعمار في غزة.

بدا أن مصر تحاول من خلال مبادرتها بشأن تخصيص نصف مليار دولار لإعمار القطاع، أنها تحاول الاستفادة من زخم قوة دورها ونفوذها في غزة خاصة مؤخراً، عبر إعلانها الضمني أنها بوابة الجهات الدولية المانحة لإعادة إعمار القطاع، بما يحمله ذلك من تداعيات قد تؤدي إلى تعقيد آلية الرقابة على دور السلطة الفلسطينية في عملية الإعمار، فيما سيرتب وجود الشركات المصرية في عملية إعادة الإعمار عوائد مادية جديدة للقاهرة، لم تحظَ بها بعد حرب 2014.

  1. الموقف الأردني من الأحداث: ربما كان الموقف الأردني من أحداث الشيخ جراح، متفهماً بحكم الوصاية على المقدسات في المدينة، والدور الأردني الخاص في قضية منازل الشيخ جراح، بحكم أنها صاحبة عقود الإيجار للأراضي المقام عليها المنازل المهددة بالإخلاء.

تطور التفاعل الشعبي خلال الأحداث الأخيرة، إلى مبادرة للزحف نحو الحدود تجاه الأراضي المحتلة، وهو الزحف الذي شارك فيه الآلاف من الأردنيين الذين نجح بعضهم باجتياز الحدود نحو أراضي العام 1948، فيما شهد البرلمان الأردني جلسة دعم وإسناد لفلسطين، دعا فيها عدد من النواب إلى ضرورة طرد سفير دولة الاحتلال في عمّان، وإعادة الأردن علاقاتها مع حركة حماس.

كان التغير الأبرز المتعلق بالموقف الرسمي من حركة حماس؛ هو التسريبات المتعلقة  باتصال هو الأول من نوعه بين رئيس جهاز المخابرات العامة الأردنية اللواء أحمد حسني ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والمتعلق بانخراط الأردن في جهود وقف إطلاق النار، وهي الجهود التي انخرط بها بشكل مباشر الملك عبد الله مع مصر وعدد من الجهات الإقليمية والدولية.

لا يعلم ما إذا كانت الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، والتي سبقها هرولة دول عربية نحو التطبيع تتجاوز الأدوار التقليدية لكل من مصر والأردن، قد تدفع الأخيرة نحو إعادة النظر في شكل علاقتها بحركة حماس التي بدا أن العالم بات يتقبل وجودها كأمر واقع لا مفر من الاستماع إليه فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، غير أن المؤكد ان الاتصال مسؤول المخابرات الأردني بقائد حماس، والذي لم تنفه عمّان، شكّل سابقة قد يبنى عليها تبعاً للتصورات الإقليمية والدولية بشأن حماس والتي يبدو أنه سيعاد ترتيبها تبعاً لنتائج الجولة العسكرية الأخيرة في غزة.

  1. عودة الزخم الدولي للقضية الفلسطينية: كان التنديد الدولي بالانتهاكات الإسرائيلية في عموم الأرض الفلسطينية وآخرها قطاع غزة، عدا عن الأداء الميداني النوعي للمقاومة في قطاع غزة، دور بارز في تصدر القضية الفلسطينية المشهد بعد تهميشها لسنوات عديدة.

منذ تصاعد الأعمال العسكرية بين المقاومة ودولة الاحتلال الإسرائيلي، شهد الموقف الرسمي الدولي انقسامات وتباينات واضحة بشأن مجريات الأحداث في الأراضي الفلسطينية خاصة قطاع غزة، والموقف من كل من دولة الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، إضافة إلى المقاربات المتعلقة بإنهاء الصراع على اساس حل الدولتين، فيما برز إلى واجهة التحليل الموقف الأمريكي إزاء التصعيد الذي تشهده غزة، والذي وإن كان قد احتفظ بدعمه لإسرائيل، لكنه حمل في ذات الوقت دلالات على اهتزاز الدعم المطلق، آخرها ما كشفت عنه تقارير أمريكية عن تحذير الرئيس بايدن لرئيس وزراء الاحتلال نتنياهو من عدم الاستمرار في وجه الضغوطات الدولية المنددة بالعدوان الإسرائيلي، فيما تشير معطيات إلى اتساع أرضية الرفض داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري للسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وتصاعد الخطاب المؤيد للحقوق الفلسطينية، برزت آخر تجلياتها في تقديم نواب ديمقراطيين في الكونجرس مشروع قانون يعلق بيع مبيعات سلاح إلى إسرائيل بقيمة 750 مليون دولار، وعلى الرغم من التوقعات بفشل محاولات تعليق بيع الأسلحة، إلا أن ذلك لن يمنع حقيقة وجود مؤشرات عن تراجع في التأييد الأمريكي لدولة الاحتلال.

على الجانب الآخر؛ بدا أن التفاعل الشعبي عالمياً مع الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية يأخذ طبعاً أكثر اتساعاً ودعماً للقضية الفلسطينية، فيما أخذ مشاهير عرب وعالميون زمام المبادرة في إبداء التعاطف مع الشعب الفلسطيني، بينما بدا أن القيود التي فرضتها بعض منصات التواصل الاجتماعي على النشطاء الفلسطينيين لم تفلح في التأثير سلباً على سرعة انتشار الرواية الفلسطينية للأحداث.

سيناريوهات قادمة:

يمكن القول أن المواجهات الأخيرة في غزة، التي تحولت فيها فكرة دفاع المقاومة عن المقدسات من النظرية إلى عتبات التنفيذ، قد رتبت تداعيات كبيرة قد نرى معالمها خلال المرحلة المقبلة، ويمكن إجمال السيناريوهات المترتبة على جولة التصعيد الأخيرة على النحو التالي:

  1. العلاقة بين السلطة الفلسطينية وحماس:

رغم تحقيق حماس مكاسب هامة على صعيد الاعتراف “غير الرسمي” بها دولياً وإقليمياً، فقد حقق التصعيد في غزة أيضاً مكاسب مهمة للسلطة الفلسطينية يمكن اعتبارها أنها أهم ما كان يريده الرئيس محمود عباس ويسعى إليه، والمتعلقة بتثبيت شرعيته، فبعد تلقى الأخير اتصالاً هو الأول من الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعد شهور من الانتظار، واتباعه باتصال آخر من وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، تركز فيه الاتصالين على جهود وقف إطلاق النار في قطاع غزة، تقدمت واشنطن بخطوة جديدة، عبر تأكيد الرئيس جو بايدن على إشراك السلطة الفلسطينية في جهود إعادة إعمار قطاع غزة، وهو الإعلان الذي شكّل دعماً إضافياً للسلطة الفلسطينية وتثبيتاً لشرعيتها المتآكلة خاصة بعد إلغاء الانتخابات.

رغم ذلك؛ يمكن القول أن الميدان قد فرض وقائع جديدة على السلطة الفلسطينية، صعّب عليها تجاهل حركة حماس، بعد الزخم الدولي الذي حظيت به الحركة، فيما يدرك رئيس السلطة أن مشاريع إعادة إعمار غزة التي قد تبدو الأضخم حتى الآن، لن تستطيع تجاوز حماس أو دورها، وهو السبب الذي دفع ربما “أبو مازن” إلى التأكيد على استعداده لتشكيل حكومة وفاق وطني تلتزم بالشرعية الدولية وتكون مقبولةً دولياً.

قد تحمل الأيام القادمة؛ مفاوضات جادة بين حركتي فتح وحماس، من أجل التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة وحدة وطنية، غير أنها تختلف عن سابقاتها في أنها ستراعي إلى حد كبير كافة الاعتبارات والشروط الحمساوية.

  1. المشهد الإقليمي: يمكن القول أن المعركة الأخيرة قد أصابت التطبيع في مقتل؛ إذ خرجت دولة الاحتلال بصورة المهزوم الذي لم يستطع حماية نفسه، فيما أن ردة الفعل الشعبية في العالم العربي، عززت فرضية رفض المزاج الشعبي لفكرة التعايش مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، كما كانت المواقف الدولية الإيجابية نوعاً ما من حركة المقاومة الفلسطينية، مؤشراً هاماً على زيف محاولات تل أبيب تضخيم ذاتها وتأثيرها على المجتمع الغربي أبرزها عجزها الحالي عن الاستمرار في عزل حماس، وسابقاً إيران.

كما أن المرحلة القادمة قد تشهد ازدياد للنفوذ المصري في قطاع غزة، وتحولها إلى البوابة الأولى لإعمار غزة، وهو ما قد يؤدي بطبيعة الحال إلى تطور في علاقة الجانب المصري بفصائل المقاومة في القطاع وعلى رأسها حركة حماس.

  1. حماس إلى المشهد الدولي: يمكن الإشارة إلى أن ألسنة اللهب التي تصاعدت في مدن الأراضي المحتلة بفعل صواريخ المقاومة، وعجز دولة الاحتلال الإسرائيلي عن تحقيق انتصار ملموس على حماس، كان السبب الرئيس في دفع أطراف دولية عديدة للإعلان عن ضرورة الحديث مع حماس، بعد نجاحها في حشد الشارع الفلسطيني خلفها، وتنامي قدراتها العسكرية طيلة السنوات الماضية، بالحد الذي تطلب من الأوروبيين تحديداً تغيير استراتيجيات التعامل مع حماس، بفعل القناعة بفشل محاولات حصارها وإجبارها على الرضوخ للمطالب الدولية الخاصة بالاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي ونبذ المقاومة.

قد تشهد المرحلة المقبلة اتصالات مكثفة بين جهات دولية عديدة، للاستماع إلى مجمل آراء حماس بشأن الصراع مع دولة الاحتلال، والموقف من حل الدولتين الذي تصاعدت مؤخراً الدعوات لإحيائه مجدداً، فضلاً معرفة رأي الحركة في شكل ومستقبل العملية الديمقراطية الفلسطينية، والموقف من تشكيل حكومة وحدة وطنية.

  1. مؤتمر دولي للسلام: يمكن أن تتحول المعركة التي فشلت دولة الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق نصر فيها، إلى أداة ضغط جديدة على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الذي حاول خلال أكثر من عقد تجاوز القضية الفلسطينية، متسلحاً بحالة الانقسام، وضعف الفعل الفلسطيني الذي يمكن أن يشكل ورقة ضغط عليه للاستجابة للمطالبات بإحياء “مفاوضات عملية السلام”.

يمكن أن يشكل مقترح لمؤتمر دولي للسلام، أحد استحقاقات هزيمة نتنياهو بصورة شخصية أمام غزة، بعد فشل المعارضة في دولة الاحتلال في تنحيته لسنوات طويلة.

خلاصة:

خرجت حكومة الاحتلال الإسرائيلي مهزومة أمام الفلسطينيين ومقاومتهم التي استطاعت للمرة الأولى تحقيق نوعاً من النصر الميداني عليها عبر الصمود في وجه العدوان واستمرار عمليات القصف للمدن المحتلة، وتوقف السلطات الإسرائيلية عن اعتداءاتها في القدس، وهي الهزيمة التي ستترتب عليها نتائج هامة على صعيد بروز حركة حماس كقوة لا تستهين بها الأطراف الدولية، وتحول التعامل معها من طرف يحكم قطاع غزة بحكم الأمر الواقع، بما يحمله ذلك من أبعاد تتعلق بالصعيد الإنساني في غزة، إلى فاعل ومؤثر في المشهد الساسي الفلسطيني، بتجاوزه لن يكون هناك أي حل.

كما ستخرج قيادة السلطة الفلسطينية رابحة جزئياً؛ بعد تجديد الاعتراف الأمريكي بشرعيتها، لكنها ستكون أمام استحقاق هام متمثل في وجود طرف رئيسي منافس شرس لها على قيادة الشعب الفلسطيني، وقادر على حشد الشارع من جهة وإيذاء “إسرائيل” من جهة أخرى.

يمكن القول أن غزة ستصبح أمام أول انفراجة حقيقية منذ فرض الحصار عليها عام 2007، وهي الانفراجة التي لا تعني بالضرورة رفع كامل للحصار، لكنه قد يشهد حلحلة كبيرة وملموسة بفعل التدخل الدولي والقناعة بفشل الاستراتيجية الإسرائيلية في حصار غزة لإضعاف حماس.

تبقى نتائج المواجهة على الأرض؛ ومدى التزام دولة الاحتلال الإسرائيلي بعدم التعدي على المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وهو الالتزام الذي قد يكون مؤقتاً، فيما يمكن أن يصبح للمجتمع الدولي قدرة أكبر على دفع السلطات الإسرائيلية للالتزام ببنود اتفاق التهدئة مع المقاومة.

أخيراً؛ قد يضطر رئيس حكومة الاحتلال الذي يقاتل من أجل البقاء في السلطة، إلى تجرع السم، والقبول بمؤتمر دولي للسلام، بدفع غربي وأمريكي، سيستثمر في هزيمته المذلة أمام صمود المقدسيين وأهالي قطاع غزة ومقاومتها.

انتهى

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق