الحوار الفلسطينيمقالاتوجهات نظر

قراءة في العقوبات الإسرائيلية الجديدة على الشعب الفلسطيني

ركّز ائتلافُ حكومة نتنياهو الوليدة، في الاجتماع الأول للمجلس الوزاري المُصغّر، المعروف بـ “الكبينيت”، اهتمامَه على إقرار جملة من العقوبات على الشعب الفلسطيني؛ متجاهلاً القضايا الداخلية، ومعبّراً على الصعيد العملي عن شراسته في العداء للشعب الفلسطيني، التي يعلنها في خطابه السياسي، دون استثناء أيٍّ من مكوّنات الشعب الفلسطيني. وتأتي هذه الخطوة في مسعى من حكومة الاحتلال الجديدة، الأكثر صراحة في عنصريتها وتطرّفها وعدوانيتها اتجاه الفلسطينيين، لنقل الصراع مع الشعب الفلسطيني إلى مستويات غير مسبوقة، تبعاً لقراءتها للظروف الإقليمية، والدولية، ولواقع الفلسطينيين؛ فهي تجد فيها فرصة مواتية لفرض حقائق جديدة على الأرض الفلسطينية، تقطع بها الطريقَ على الفلسطينيين لاستعادة حقوقهم التاريخية والثابتة، وتقضي على تطلّعاتهم المشروعة في الحرية والاستقلال وإقامة دولتهم الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس على كامل التراب الفلسطيني.

عقوبات تهدف إلى شلّ قدرة الفلسطينيين الدبلوماسية

يبدو أن الورقة الأخيرة التي تمتلكها السلطة الفلسطينية، المتمثلة في استحضار دور محكمة العدل الدولية، كان لها وقعُها على الحكومة “الإسرائيلية” الداعشية في ذهنيّتها، سواء في خطابها أو سلوكها، ولا يقتصر الأمر على توجهاتها اتجاه الفلسطينيين فحسب، بل يظهر سلوكها المتطرف داخلياً في تصريحات وزير الدفاع السابق “بيني غانتس” الذي اتهم، في 9 كانون الثاني (يناير)، نتنياهو وحكومته الجديدة بقيادة الانقلاب، محذّراً من حرب أهلية وشيكة.

بالعودة إلى العقوبات المُقرّة والمُعلنة يوم الخميس 5 كانون الثاني (يناير) 2023، فقد اقتطعت حكومة الاحتلال نحو 139 مليون شيقل (ما يُعادل 40 مليون دولار) من أموال المقاصّة، التي تجبيها سلطات الاحتلال لصالح السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق باريس 1994، وحوّلتها لصالح عائلات إسرائيليين قُتلوا في عمليات فدائية فلسطينية.

كما تضمّنت العقوبات الاقتصادية حسمَ جزءٍ من الأموال الفلسطينية، مقابل المخصّصات التي تدفعها السلطة الفلسطينية لعوائل الشهداء والأسرى، دون تحديد قيمة هذه الأموال ما يجعلها تبقى رهينة تقارير المنظومة الأمنية، إلى جانب تجميد مخططات البناء الفلسطينية في مناطق “ج” (وفقاً لاتفاق أوسلو) في الضفة الغربية.

الجديد في نوعية العقوبات أنها لم تستثنِ القيادة السياسية الفلسطينية، وخصّصت لها نصيباً من العقاب، بإلغاء امتيازات وسحب بطاقات الشخصيات المهمّة “VIP”، في محاولة لتعطيل دورها الدبلوماسي في إطار المعركة القانونية التي تكشف بلا شكّ جرائم الاحتلال عالمياً.

في هذا السياق، لم يسلم المجتمع المدني الفلسطيني من تلك العقوبات، لأن النشاطات الإنسانية والحقوقية باتت تُصنّف أعمالاً إرهابية حسب رؤية الاحتلال، فقد ادّعت حكومة نتنياهو أنّ ما تقوم به المؤسسات الحقوقية الفلسطينية هو نشاطاتٌ إرهابية ومعادية لدولة الاحتلال!

تجدر الإشارة إلى أنّ تلك العقوبات لم تكن مفاجئة للسلطة الفلسطينية، لأن ما ورد من قرارات عقابية في وسائل الإعلام “الإسرائيلية” كان معلوماً مسبقاً لقيادة السلطة، وهذه الأخيرة بُلِّغت بشكل مسبق بنوعية العقوبات والأشخاص المُعاقبين “رياض المالكي – رياض منصور – زياد أبو عمرو”، وهي شخصيات تعمل في المجال الدبلوماسي، في حين استثنت الرئيس محمود عباس، ومدير جهاز المخابرات العامة ماجد فرج، ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ يؤكد هذه الرواية، ما يؤكد أن مساعي دولة الاحتلال تميل في الوقت الرّاهن إلى شلّ قدرة الفلسطينيين الدبلوماسية أكثر من رغبتها تقويض بنية السلطة الفلسطينية حتّى الآن، ما يعطي أهمية خاصة للجهود الدبلوماسية التي بذلتها الدبلوماسية الفلسطينية في الأشهر القليلة الماضية  .

عقوبات ليست جديدة

يكشف الإعلان عن العقوبات من جانب الحكومة “الإسرائيلية” عن مستوى من التدهور غير مسبوق من العلاقة بين حكومة نتنياهو والسلطة الفلسطينية، وفي إطار إجراءات الضغط على السلطة الفلسطينية، ومحاولة إجبارها على وقف صرف رواتب عائلات الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. جمّدت الحكومة الإسرائيلية مبلغ 138 مليون دولار في شباط (فبراير) من عام 2019، وقد برّرت الحكومة الإسرائيلية إجراءاتها بالسعي لعدم تحفيز الفلسطينيين على المقاومة، أو وقف سياسة “الدفع مقابل القتل” حسب الزعم الصهيوني.

يبدو أن ثمّة حالة رضا أمريكي على سلسلة العقوبات التي بدأت عام 2017، انتهاءً بالعقوبات الأخيرة، لأن الأشهر القليلة التي سبقت وصول الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب إلى الحكم في كانون الثاني (يناير) 2017 شهدت ضغوطاً أمريكية وإقليمية مُكثّفة ضد السلطة الفلسطينية، كما أن الإعلان عن صفقة القرن جاء بعد عام تقريباً من الإجراءات الإسرائيلية الإضافية عام 2019، وقد نصّت صفقة القرن صراحةً على مطالبة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير بالتوقف عن دفع رواتب لعوائل الشهداء والأسرى الذين نفّذوا عمليات فدائية.

ومنذ ذلك الحين، استمرّت “إسرائيل” في حجب جزء من عائدات الضرائب عن السلطة الفلسطينية، مما أدى إلى خسارة تقدر بمليار دولار للاقتصاد الفلسطيني منذ عام 2019 حتى بداية عام ٢٠٢٢، وقد أثارت الخطوة الإسرائيلية انتقادات هيئات اقتصادية دولية اعتبرت أن تلك الخطوة تسهم في انتشار البطالة والفقر، وستسبب انكماشاً بنسبة ٦٪ للاقتصاد الفلسطيني للعام الجاري.

وفيما يخصّ الإجراءات المتعلقة بسحب امتيازات الشخصيات السياسية الفلسطينية، فقد سبق أن أقدمت دولة الاحتلال على سحب امتيازات وسحب بطاقات الشخصيات المهمة “VIP” من شخصيات في السلطة، أبرزها وزير الخارجية رياض المالكي، كما أن قرار منع البناء في مناطق “ج” بالضفة الغربية ليس جديداً، فـ”إسرائيل” تعتبر هذه المناطق تحت سيادتها وفقاً لاتفاق أوسلو، إذ يقول الكاتب الصهيوني في صحيفة معاريف أليكس نحومسون في آب (أغسطس) 2021، إنّ ثمّة ضغوطاً خارجية أمريكية تُمارس على الحكومة الإسرائيلية من أجل السماح للفلسطينيين بالبناء في مناطق “ج”.

لذلك فإن قرار منع البناء في مناطق “ج” يأتي كردٍّ “إسرائيليّ” واضح، ليس على الفلسطينيين فحسب، بل على الأطراف الدولية التي انتقدت تلك العقوبات الإسرائيلية، واعتبرتها ضمن المساعي الإسرائيلية لتفريغ هذه المناطق من الفلسطينيين برفضها منح تراخيص البناء، وتحويلها إلى أماكن غير صالحة للعيش، من أجل فتح المجال بشكل أكبر أمام البناء الاستيطاني.

كيف نفهم العقوبات الإسرائيلية؟

جاءت العقوبات الإسرائيلية بعد قرابة أسبوع على تبنّي الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً يطلب من  محكمة العدل الدولية إصدار فتوى بشأن الآثار المترتبة على انتهاكات إسرائيل المستمرّة لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، وذلك بناءً على مساعي السلطة الفلسطينية، بعد أكثر من عام على كلمة الرئيس محمود عباس، على هامش افتتاح الدورة الـ٧٦ للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي أمهل فيها دولة الاحتلال عاماً واحد للانسحاب من أراضي العام 1967، على أن تباشر السلطة خطوات على طريق سحب الاعتراف من دولة الاحتلال على الحدود الحالية.

من ناحية أخرى، فإن تأثير العقوبات الإسرائيلية على الاقتصاد الفلسطيني يتناقض مع التوجهات الأمريكية الحالية لتحسين اقتصاد السلطة الفلسطينية أو تعزيزه، وهذا ما يكشف عن نيّة الحكومة الإسرائيلية الجديدة تجاه ملفّ الاستيطان، وتجاهل أيّ ضغوط خارجية، كما أن القرار المتعلّق بتعويض عائلات الإسرائيليين، يأتي تنفيذاً لقرار المحكمة الإسرائيلية العليا في نيسان (إبريل) من عام 2022، ما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الحكومة الإسرائيلية الحالية باتت مستعدّة للذهاب إلى أبعد مدى من العداء والمواجهة مع الشعب الفلسطيني، بغض النظر عن ما قد يصدر من فتاوى عن محكمة العدل الدولية، لأن قرارات هذه الأخيرة لن يكون لها رصيد على الأرض سوى التأثير المعنوي الكبير، كما أن الدول الكبرى والمؤثرة ليست مستعدّة لدعم أيّ عقوبات على إسرائيل.

على الجانب الآخر، من المحتمل أن تتوجه السلطة الفلسطينية لاستخدام العقوبات “الإسرائيلية”  في ترتيب علاقاتها الداخلية مع الفصائل، ورغم الكثير من الإشكاليات المترتبة على تلك العقوبات، إلا أن تحويلها إلى مسار وطني يبقى حاضراً على أجندة السلطة الفلسطينية، ذلك أنّ الفصائل الفلسطينية لاسيما حركة حماس، التي أدانت العقوبات الإسرائيلية وطالبت قيادة السلطة بالصمود أمام محاولات حكومة الاحتلال ثنيها عن المضيّ قدماً في مسار النضال القانوني، أو الضغط عليها في ملفّ صرف مخصّصات عائلات الأسرى والشهداء والجرحى، ما يزيد من فرص التجاوب مع دعوات أطلقها الرئيس محمود عباس لحوار وطني شامل، في محاولة لاستحضار المعركة السياسية التي خاضها الفلسطينيون موحّدين ضد فرض صفقة القرن وخطّة الضمّ الإسرائيلية للضفة الغربية.

ختاماً، شرعت سلطات الاحتلال خلال السنوات القليلة الماضية في اتخاذ تدابير وإقرار عقوبات ضد الفلسطينيين بمبرّرات مختلفة، بهدف إحكام الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي الحيلولة دون تحقيق المصالحة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته السير على طريق تغيير الواقع الديمغرافي في الضفة الغربية بما يسمح لها بضمّ الضفة الغربية عملياً، دون الحاجة إلى أيّ قرارات سياسية من شأنها التأثير سلباً على صورتها الإقليمية، خاصةً أنها قطعت شوطاً جيداً على طريق التطبيع مع العديد من قوى الإقليم.

وبشأن تركيز العقوبات على شخصيات سياسية بعينها، واستثناء شخصيات أخرى منها كـ “محمود عباس، ماجد فرج، حسين الشيخ”، فإسرائيل ربّما غير مستعجلة لتغيير الوضع الأمني القائم في الضفة الغربية، مع الاستمرار في إضعاف شرعية السلطة الفلسطينية محلياً وتقويض جهودها القانونية والدبلوماسية دولياً، وبالرغم من التأثير السلبي لتلك العقوبات على خزينة السلطة الفلسطينية وعلى مجمل الاقتصاد الفلسطيني، وتبعات ذلك على قدرة الفلسطينيين على الصمود الذاتي، يبقى السبيل الوحيد لمواجهة كلّ هذه الاستحقاقات هو الالتحام بخيارات الشعب الفلسطيني، والاستقواء بالشارع الفلسطيني وقواه الفصائلية التي أعطت إشارات إيجابية إلى استعدادها لمواجهة كلّ هذه التحديات والمخاطر في إطار مرجعية فلسطينية واحدة، تضمن بناء استراتيجية وطنية فعّالة وإدارتها، وتحشد طاقات الشعب الفلسطيني في كلّ أماكن وجوده، وتستثمر بعض التحولات والمتغيرات الإقليمية والدولية لصالح القضية الفلسطينية، ولعلّ منصّة الحوار الوطني برعاية الجزائر الشقيقة عنوانٌ ملائم لالتئام الشمل الفلسطيني وتوحيد الجهود وتكاملها لمواجهة مخاطر  حكومة صهيونية  غير مسبوقة في عدوانيتها.

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق