الحوار الفلسطينيمقالاتمقالات رأيوجهات نظر

تعزيز الحياد الإيجابي واستقلالية القرار الفلسطيني

هل تحقّقت استقلالية القرار الوطني الفلسطيني في أيٍّ من مراحل النضال الوطني؟ وما هي المحدّدات والعوامل التي تعزّز هذه الاستقلالية وتقلّص حجم التدخلات الخارجية في الشأن الفلسطيني؟ وهل نجح الفلسطينيون في النأي بأنفسهم عن التدخل في شؤون الأطراف العربية وخصوصياتها، وفي اعتماد سياسة حيادٍ إيجابي إزاء الخلافات والانقسامات العربية والاستقطابات وصراعات المحاور الإقليمية، أم فشلوا في ذلك وتورّطوا، قسراً أو قصداً، في انحيازات لا تخدم المصالح الوطنية؟

  • المحدّدات والعوامل المؤثّرة:

كان تأثير العامل العربي حاسماً في نشأة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 كإطارٍ ممثّل للشعب الفلسطيني وناظم لفعله الوطني. وعلى الرغم من أن ياسر عرفات استطاع بعد هزيمة عام 1967 أن يُحدِث انعطافة في توازنات القرار الفلسطيني، باتجاه زيادة مساحة تأثير البعد الوطني، فإن تجاذبات المواقف العربية وتناقضاتها وصراعاتها بقيت ضاغطة ومؤثرة في حسابات القرار الفلسطيني، وفي قدرة الفلسطينيين على النأي بأنفسهم عن صراعات العرب وخلافاتهم.

ويمكن الإشارة إلى مجموعة عوامل ومحدّدات أثرت بصورة قوية في استقلالية القرار الفلسطيني وفي قدرة الفلسطينيين على ممارسة الحياد الإيجابي. ومن أهمّها، إضافةً إلى معطيات النشأة وتأثيرها:

  1. تأثير العامل الجغرافي الضاغط على القرار الفلسطيني، بحكم تركّز الوجود وثقل القرار الفلسطيني، خلال عدّة عقود، في ساحات اللجوء خارج الأرض الفلسطينية:

وقد فرض هذا المحدِّد تحدّيات مهمّة في اتجاهين؛ فهو من زاويةٍ أخضع مؤسّسات القرار الفلسطيني لضغوط الدول المضيفة وتدخلاتها في الشأن الفلسطيني، بحكم تحمّل تلك الدول لعبء الاستضافة، وشعورها بأن لها الحقّ في تحقيق بعض المكتسبات وتعزيز الدور والحضور الإقليمي والدولي، بحكم امتلاكها القدرة على الضغط والتأثير في اتجاهات القرار الفلسطيني.

ومن زاوية أخرى فإن وجود مؤسّسات القرار الفلسطيني في ساحات عربية، أقحمها وورّطها، في كثيرٍ من الأحيان، في المعادلات والتوازنات الداخلية لتلك الدول، كما حصل في الأردن ولبنان، فقد دخل الجانب الفلسطيني طرفاً في التباينات والصراعات الداخلية، وانحاز لبعض أطراف الصراع الداخلي، واشتبك أحياناً مع السلطة المركزية في الدولة. وكان ذلك سبباً في عمليات ارتحال قسري للقيادة الفلسطينية من دولة إلى أخرى، إلى أن انتهى بها المطاف في تونس، قبل أن تتمكّن من دخول الأراضي الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو.  

  • الخلافات والانقسامات الفلسطينية، وغياب وحدة القرار الفلسطيني:

ظهر تأثير هذا العامل بصورة جلية في تباين أولويات فصائل منظمة التحرير وانحيازاتها السياسية والإيديولوجية أثناء وجودها في الأردن، فقد طرحت بعض الفصائل شعارات إشكالية، وقامت بممارسات متسرّعة أقحمت المجموع الفلسطيني في صراع دامٍ أفضى إلى خروج المنظمة من الأردن، الذي كان لديه هو الآخر حساباته واعتباراته في إدارة العلاقة مع وجود المنظمة على أراضيه.

ولاحقاً حين برزت حركة (حماس) بصورة قوية على ساحة الفعل الوطني أواخر عام 1987، ظهر بوضوح توزّع مركز الثقل والفعل الفلسطيني بين قوّتين رئيسيتين، وبلغ الانقسام ذروته في العام 2007 حين وقع الانقسام سياسيّاً بين حركتَيْ (فتح) و(حماس)، وجغرافياً بين الضفة الغربية وقطاع غزة. الأمر الذي وضع طرفي الانقسام أمام معادلات صعبة ومعقّدة، وفتح المجال واسعاً لزيادة تأثير التدخلات الخارجية في الشأن الفلسطيني. ولم تنجح كلّ محاولات ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي واستيعاب القوى غير المشاركة في مؤسّسات منظمة التحرير، وبصورة أساسية حماس والجهاد الإسلامي، ما وضع عوائق مهمّة في طريق توحيد القرار السياسي الفلسطيني.

  • اتفاقية أوسلو واستحقاقاتها:

فقد رهنت الاتفاقية السلطة الفلسطينية لاستحقاقات التنسيق السياسي والأمني والاقتصادي مع الاحتلال، وأخضعتها للضغوط والإملاءات. وشكّل توقيع الاتفاقية نقطة تحوّل بالغة الخطورة في مستوى التحديات التي تواجه استقلالية القرار الفلسطيني، وأضاف إلى التدخلات العربية في الشأن الفلسطيني تدخّلات أشدّ خطورة تمثّلت في تحكّم العامل الإسرائيلي والدولي بقرارات السلطة، التي بات وجودها واستمرارها وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها مرهوناً بالإرادة الإسرائيلية والدولية.

وفي ظلّ الواقع الجديد، لم تعد قيادة السلطة تملك قرار ترتيب البيت الداخلي والتوجّه نحو المصالحة وإنهاء الانقسام الفلسطيني دون ضوء أخضر إسرائيلي وأمريكي. بل إن الأمر تجاوز ذلك، وبات الدور الإسرائيلي والإقليمي حاسماً في اختيار قيادات السلطة، ويُرجّح أن يكون هو العامل الحاسم كذلك في تحديد خيارات مرحلة ما بعد عباس.

  • تقلّبات البيئة السياسية الإقليمية، والانقسامات العربية وصراعات المحاور الإقليمية:

فالخلافات والانقسامات العربية لم تتوقف، وتجاذبات المحاور الإقليمية المتصارعة استمرّت طيلة الفترة الماضية، ما وضع الشعب الفلسطيني أمام معادلات معقّدة وخيارات واستحقاقات صعبة.

وعلى الدوام كان يُنظر إلى الشعب الفلسطيني كحلقة أضعف في المعادلة العربية والإقليمية، وفي كثير من الأزمات كان يدفع، أكثر من غيره، ثمن الانقسامات العربية والصراعات الإقليمية، ولم يُسمح له أو يُقبل منه التموضع في مساحة الحياد التي تتناسب مع وضعه الصعب وظروفه المعقّدة، وباستمرار كان مطالَباً بالانحياز لهذا الجانب أو ذاك، مع ما لهذا الانحياز من كُلف وأثمان هو في غنى عنها. غير أن ذلك لا يمنع الاعتراف بأن الانحيازات الفلسطينية كانت في العديد من المحطات ذاتية، نتيجة حسابات وتقديرات خاطئة، واندفاعات غير محسوبة أو غير متّزنة.

ففي أزمة العراق والكويت عام 1991، كان الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني عالياً، وتم تهجير مئات آلاف الفلسطينيين خارج الكويت. وشكّلت ثورات الربيع العربي هي الأخرى تحدّياً صعباً لمدى قدرة الفلسطينيين على التزام سياسة الحياد الإيجابي في ظلّ الأحداث الجسام والتطورات العاصفة. فبعض القوى الفلسطينية وجدت نفسها مدفوعة باعتبارات إيديولوجية إلى الانحياز لبعض تلك الثورات، وإلى لعب أدوار أخرجتها عن مساحة الحياد الإيجابي نحو الانخراط لصالح هذا الطرف أو ذاك.

حصل ذلك في الحالة المصرية، حين أوصلت الثورة التيار الإسلامي إلى سدّة السلطة والحكم. وفي الحالة السورية انخرطت بعض الفصائل الفلسطينية في تطوّرات الوضع السوري، وانقسمت مواقفها في تأييد طرفي الأزمة، فوقف البعض إلى جانب الثورة وساندها، والبعض الآخر وقف مع النظام وقاتل إلى جانبه. ولم تكن الفصائل وحدها من دفعت ضريبة الخروج على سياسة الحياد الإيجابي، فالنتائج السلبية طالت أبناء الشعب الفلسطيني على الأرض السورية.

  • تأثير العامل الاقتصادي والحاجة المستمرّة إلى الدعم والتمويل:

فمنذ نشأتها، اعتمدت السلطة الفلسطينية في وجودها وأداء مهامها على الدعم العربي والدولي، الذي شكل شريان الحياة الضروري لبقائها واستمرارها، وتحوّل بالتالي إلى سيف مسلط على رقبتها، وإلى محدِّد أساسي ضاغط على توجّهاتها وقراراتها السياسية.

ولم تكن فصائل العمل الوطني أحسن حالاً، فقد اعتمدت هي الأخرى، في غالب الأحيان، على الدعم العربي والإقليمي والدولي، وخضعت لتأثير الأطراف الداعمة والمموّلة، فتعدّدت ولاءاتها، وتناقضت أولوياتها.

ورغم المساعدات المالية الكبيرة التي تلقّتها السلطة الفلسطينية منذ نشأتها، إلا أن غياب التخطيط السليم والإدارة الكفؤة واستشراء الفساد في أجهزتها، حال دون استثمار تلك المساعدات لتطوير اقتصاد وطني قادر على التخفّف من تأثير الدعم الخارجي بصورة تدريجية، وصولاً إلى حالة معقولة من استقلالية القرار الاقتصادي الذي يشكل مدخلاً مهماً لاستقلالية القرار السياسي.

وفي قطاع غزة أضاف الحصار الجائر صعوباتٍ كبيرة على الوضع الاقتصادي والمعيشي، وزاد من حجم الاعتماد على المساعدات الخارجية، ولم يدع فرصة لأيّ توجّه لبناء اقتصاد وطني قادر على النهوض وتحقيق قدرٍ من الاستغناء عن الدعم الخارجي.

والفصائل الفلسطينية لم تكن هي الأخرى أحسن حالاً، فقد أخفقت في الاستفادة من فترات الوفر المالي لبناء استثمارات ناجحة توفّر لها قدراً معقولاً من احتياجاتها المالية وتقلّل اعتمادها على التمويل الخارجي.

  • هل ثمة فرصة للحياد الإيجابي ولتعزيز استقلالية القرار؟

من خلال الوقوف على العوامل المؤثّرة في تحديد مدى قدرة الفلسطينيين على التزام سياسية الحياد وتعزيز استقلالية القرار الوطني، يتضح مدى الصعوبات والتحدّيات التي تعترض فرص تحقيق ذلك.

صحيح أن المحدّد الأول المتعلّق بتأثير الجغرافيا وضغطها، طرأ عليه تغيّر مهمّ مع دخول السلطة الفلسطينية ومؤسسات القرار الوطني إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، فلم يعد مرتهناً لإرادة هذه العاصمة العربية أو تلك، لكن في المقابل فإن القرار الفلسطيني خضع لما هو أسوأ من الضغط العربي ومن تأثير العامل الجغرافي، فقد ارتهن بصورة كبيرة لاستحقاقات اتفاقية أوسلو وللضغط والابتزاز الإسرائيلي والأمريكي والأوربي الذي لا يتوقف.

كما أن الانقسام الفلسطيني يتعمّق ويزداد حدّة مع مرور الوقت، وتتراجع بصورة مضطردة فرص تحقيق المصالحة وتوحيد الجبهة الداخلية الفلسطينية وانخراط مختلف القوى في منظمة التحرير. وفي الوقت ذاته، تتمسّك السلطة الفلسطينية باتفاقية أوسلو، وتصرّ على مواصلة التنسيق الأمني مع الاحتلال.

وعربياً، تستمرّ الخلافات والانقسامات العربية، وتتواصل الصراعات بين المحاور الإقليمية، ولا تبدو مرشّحة للخروج من الحالة القائمة. بل إن تطوّراً خطيراً طرأ على الواقع العربي يُرجّح أن تكون له انعكاساتٌ خطيرة على القضية الفلسطينية، وأن يشكّل مزيداً من الضغط على القرار الفلسطيني، ويتمثّل في موجة التطبيع العربي مع الاحتلال وتوقيع ما عُرف بـ “الاتفاقيات الإبراهيمية” مع الكيان الصهيوني.

أما على صعيد الاعتماد على الدعم المالي من أطراف عربية وإقليمية ودولية، فلا يلوح في الأفق ما يشير إلى احتمالات تراجع حاجة مختلف الأطراف الفسطينية إلى هذا الدعم المشروط والموجّه والمؤثر في سياساتها وخياراتها وأولوياتها.

هل ثمة ما يمكن فعله؟

رغم الصورة التي تبدو قاتمة حول فرص اعتماد مقاربات أفضل فيما يتعلق بتحقيق الحياد الإيجابي وتعزيز استقلالية القرار الفلسطيني، إلا أن ثمة متغيّرات مهمّة طرأت على المشهد الوطني والدولي يمكن استثمارها لإحداث تعديلات على الوضع القائم.

فعلى الصعيد الوطني، يزداد انحياز الشارع الفلسطيني لمشروع المقاومة، وتترسّخ مكانة

فصائل المقاومة، وتتعزّو وحدة الصف المقاوم ميدانياً، والفرصة ما تزال قائمة لبناء جبهة سياسية موحدة تتبنّى خيار المقاومة وتتمسك بثوابت الشعب الفلسطيني. ولا شك في أن تحقيق نجاح على هذا الصعيد يمكن أن يسهم إيجاباً في تعزيز استقلالية الموقف الفلسطيني.

كما أن تطوّر موقف فلسطينيي الداخل المحتل عام 48 وزيادة انخراطهم في مشروع المواجهة مع الاحتلال، يمثّل متغيّراً مهمّاً يمكن استثماره في تعزيز قوة ووحدة الموقف الفلسطيني.

وعلى الصعيد الدولي، فإن حالة الاشتباك والاستقطاب الدولي على خلفية المواجهة الروسية مع الغرب عبر الساحة الأوكرانية ربما تستمرّ وتتصاعد، وكذلك التوتر في العلاقات الأمريكية الصينية على خلفية تطورات الوضع في تايوان، الأمر الذي قد يُحدِث تغييراً مهمّاً في التوازنات الدولية يمكن استثمارها في العديد من الملفّات، ومن بينها القضية الفلسطينية.

ومع بقاء الحاجة قائمة للخروج من حالة الانقسام السياسي والجغرافي وتوحيد الجبهة الوطنية، وتزايد أهمية الانعتاق من الاستحقاقات السياسية والاقتصادية والأمنية لاتفاقية أوسلو، وضرورة اعتماد مقاربات عاقلة تحقّق الحياد الإيجابي فلسطينياً إزاء الأزمات العربية والاستقطابات الإقليمية، فإن المتغيّرات الإيجابية على صعيد تطوّر الأداء والفعل المقاوم، وتعزيز التنسيق الميداني، والتطوّر في دور الداخل الفلسطيني المحتل، والارتباك في المشهد الدولي، يفتح نافذة فرص مهمّة لتنويع الخيارات واعتماد مقاربات جديدة في إدارة منظومة العلاقات السياسية عربياً وإقليمياً ودولياً، وهو ما يستدعي مغادرة مربّع الانتظار، واعتماد رؤية سياسية جديدة للفعل الوطني تستثمر في الفرص المتاحة ولا تعلّق خياراتها على المجهول أو على الإرادة الخارجية.

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء مجموعة الحوار الفلسطيني.

الوسوم
اظهر المزيد

عاطف الجولاني

كاتب ومحلل سياسي ورئيس تحرير صحيفة السبيل الأردنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق