تقدير الموقف

الفرص الاقتصادية و المحاذير السياسية التفاهمات الفلسطينية المصرية المحتملة

شهدت العاصمة المصرية القاهرة وصول العديد من وفود القيادة الفلسطينية بشقيّها الرسمي والفصائلي بدءً من زيارة رئيس الحكومة الفلسطينية في رام الله محمد اشتيه نهاية مايو الماضي مروراً بزيارات قيادة الفصائل، وفي مقدمتها وفدا حركة حماس والجهاد الإسلامي ضم قيادات العمل السياسي فيهما؛ وذلك لمناقشة العديد من الملفات السياسية والميدانية[1] .

ووفقاً لما ورد فيما جاء من بيانات خلال الساعات الماضية فإن وفد حركة حماس لم يقتصر على القيادة السياسية فحسب، إنما يضم العديد من الشخصيات الحكومية في قطاع غزة، أبرزها رئيس لجنة العمل الحكومي، مما يُعيد إلى الأذهان تلك التفاهمات التي توصلت إليها حركة حماس مع الجانب المصري بعد قبولها بحل اللجنة الإدارية في العام 2017[2]، مقابل تصفية الخلافات واستقبال قطاع غزة إلى العديد من التسهيلات الحياتية والاقتصادية، والتي كان أبرزها تنشيط حركة المرور عبر معبر رفح البري، وتحريك المياه الراكدة في ملف المصالحة، وتحسين علاقة التعاون التجاري والزراعي بين مصر وقطاع غزة.

ومن الواضح؛ أن وجود وفود الأطراف الفلسطينية في القاهرة – من الناحية الموضوعية – لم يقتصر على علاقة مصر مع قطاع غزة فقط، لأن زيارة وفدي حركة حماس والجهاد الإسلامي جاءت في أعقاب زيارة وفد السلطة الوزاري[3] ، برئاسة محمد اشتية الذي تحدث وعلى غير العادة عن ضرورة تحسين الوضع الاقتصادي في قطاع غزة، إضافةً إلى كونها الزيارة الأولى بعد التصعيد الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في مايو الماضي، مما يشير إلى أن البعد الأمني المتمثل بالتصعيد الأخير حاضراً وبقوة.

ملف المصالحة وإنهاء الانقسام:

تأتي دعوة الإدارة المصرية لأطراف القضية الفلسطينية في سياق رغبتها في استئناف اللقاءات الثنائية بين طرفي الانقسام الفلسطيني من جديد، حيث يأتي ملف المصالحة على رأس أجندة ملفات هذه الزيارة، حيث تسعى الإدارة المصرية مكثفةً الجهود في عقد اللقاءات الثنائية إلى تقريب وجهات النظر بينهما، وذلك من خلال تعزيز التسهيلات

الاقتصادية في قطاع غزة من جهة، وتحريك بعض الملفات العالقة من جهة أخرى، ومن أهمها؛ المصالحة الفلسطينية، وتثبيت التهدئة مع الاحتلال، خاصةً مع عودة تلويح الأخير مجدداً باحتمالية التصعيد الميداني في قطاع غزة.

وفي السياق نفسه، كانت الإدارة المصرية قد وجّهت العديد من الدعوات للأطراف الفلسطينية في أوقاتٍ سابقة، كان آخرها لقاء الوفود الفلسطينية في منتصف العام 2021 بُعيد تصعيد مايو من العام نفسه[1] ، وكذلك لقاء الأطراف مرةً أخرى خلال شهر شباط من العام الحالي[2] ؛ وذلك لبحث سبل المصالحة وإنهاء الانقسام، حيث أكدت الإدارة المصرية خلال تلك اللقاءات على ضرورة إنهاء الانقسام وتوحيد الجبهة الداخلية الفلسطينية، وبناءً عليه تأتي الدعوة الحالية امتداداً للجهود المصرية المتواصلة لتعزيز البيت الداخلي الفلسطيني من خلال صياغة تفاهمات لوأد الانقسام بين الطرفين.

وعلى الرغم من وجود رغبة صريحة لدى الإدارة المصرية بضرورة وضع حد للانقسام الفلسطيني، إلا أنها لا تجد أي ضرورة ملحّة لاستعمال أوراق الضغط المختلفة على إحدى الطرفين الفلسطينيين لإجبارهم على الذهاب إلى خيار المصالحة وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإنما تسعى إلى صياغة بعض التفاهمات التي ينطوي عليها تقديم تسهيلات اقتصادية إلى قطاع غزة بإشراك السلطة الفلسطينية في تعاونٍ مشترك من شأنه أن يدفع الطرفين إلى التقارب النسبي والتدريجي، على آمل أن يشكّل ذلك أرضية خصبة لتحقيق المصالحة فيما بعد، وهذا ما يتضح من قائمة مجالات التعاون الاقتصادي التي أُعلن عنها ضمن مخرجات هذه الزيارة.

التعاون الاقتصادي والتسهيلات:  

يشكل تعزيز التعاون الاقتصادي وتقديم التسهيلات للشعب الفلسطيني أبرز العناوين التي احتوتها أجندة الزيارة، حيث تناولت اللقاءات بين الجانبين عدة ملفات اقتصادية وتجارية وزراعية وتعليمية وصحية، إضافةً إلى تنسيق عمل الأمانتين العامتين لمجلس الوزراء في فلسطين ومصر؛ مما استدعى وجود وفد حكومي فلسطيني إلى جانب ثلة من رجال الأعمال الفلسطينيين الذين عقدوا اجتماعات جانبية مع نظرائهم المصريين أفضت إلى التوافق على زيارة لاحقة لمستثمرين مصريين من المنتظر أن يزوروا فلسطين لإنجاز جملة من الشراكات والاستثمارات التي من المتوقع أن تعود بالنفع على كلا الجانبين.

وفي هذا السياق كان رئيس وفد الحكومة محمد اشتية قد ناقش مع رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية عباس كامل جملة من القضايا ذات العلاقة بقطاع غزة، اذ كشف تصريح اعلامي صادر عن مكتب الأول حول مباحثات أجراها لتخفيف معاناة سكان قطاع غزة وتسهيل حركتهم عبر معبر رفح البري، إضافة إلى دراسة ربط الكهرباء بين مصر وقطاع غزة لرفع كفاءتها وقدرتها الاستيعابية، إلى جانب تسريع سير عملية إعادة الإعمار في القطاع، ودراسة امكانية إنشاء محطات تحلية مياه ممولة من المانحين في قطاع غزة، علاوةً على تفعيل شبكات الهاتف المحمول الفلسطيني في مصر.

التسهيلات وجه آخر للحصار:

إذا كان حديث رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه حول الزيارة يحمل الكثير من المعاني الإيجابية، إلا أن تطوير التعاون الاقتصادي بين الجانبين، واستعداد القاهرة لتسهيل الوضع المعيشي لسكان قطاع غزة يحمل في طياته الكثير من التفاصيل ذات البُعدين السياسي والأمني، خاصةً وأن المنطقة تشهد تصعيداً في الخطاب التهديدي بين دولة الاحتلال من جهة، وإيران وحزب الله من جهة أخرى.

فالوضع الراهن يشهد العديد من مؤشرات التوتر على مستوى الجبهة الشمالية لدولة الاحتلال، وهي مسألة تبقى حاضرة في العقل المصري؛ حيث أشارت بعض المصادر إلى أنّ ملف قطاع غزة على طاولة المفاوضات الجارية بين القاهرة وطهران، حيث تعتقد القاهرة أن إثناء الفصائل لاسيما حركة الجهاد الإسلامي عن التفكير في المشاركة في المواجهة العسكرية مع الاحتلال خلال المرحلة المُقبلة إذا ما اندلعت مواجهة متعددة الجبهات يرتبط جزئياً بالموقف الإيراني. إضافةً إلى أن استمرار الهدوء النسبي في الأراضي الفلسطينية يعزز في حد ذاته من موقع مصر الإقليمي، لأن القاهرة لا ترغب في التنازل عن دورها تجاه الملف الفلسطيني، لا سيّما وساطتها المستحقّة بقربها الجغرافي وخبراتها الطويلة بالملف الفلسطيني، ومع الأهمية الكبير للدور المصري كما يراها الفلسطينيون، لا يخلو الأمر أحياناً الانتقاد العديد من الجهات الفلسطينية بسبب عدم قدرتها على إجبار الاحتلال على الرضوخ إلى شروط واسطتها في اتفاقيات الهدنة المتكررة.

لهذا فإن السلوك المصري الإيجابي المتعلق بزيادة التسهيلات لحركة الأفراد ومتابعة المشروعات المصرية في غزة، والحديث عن توسيع تلك المشروعات الاسكانية والتنموية والتجارية له الكثير من الإيجابيات التي يُمكن أن تنعكس على تحقيق انفراجة ملحوظة على الوضع الاقتصادي الغزاوي على المستويين المتوسط والبعيد، غير أن تلك الإيجابيات من شأنها أن تعزز حالة اعتمادية قطاع غزة اقتصادياً على الجانب المصري، الأمر الذي يُضاعف من أوراق الضغط السياسي التي تمتلكها القاهرة، مما يجعل من الصعب على القيادة في غزة معارضة الإدارة المصرية أو تجاهل ضغوطها التي سرعان ما تظهر في أوقات التصعيد، وهو ما يمكن أن يعزّز من فرضية رغبة الإدارة المصرية باتباع خطوات تقوم على تفاهمات مشتركة تدعم تحقيق المصالحة وفقاً ل مسار تدريجي بالنظر إلى التكتيك المصري الراهن في إدارة الملف الفلسطيني كما ظهر في جهودها مع غزة ورام الله حيث التركيز على المنافع الاقتصادية للمصالحة في بين الادارة القائمة في غزة والسلطة الفلسطينية في رام الله.

ومن جانب آخر، هناك احتمال مفاده أن الثمن السياسي الذي سوف تدفعه غزة مقابل تخفيف الحصار يعفي “إسرائيل” من مسؤولياتها كدولة احتلال، وفي الوقت ذاته يعزز من حالة الانقسام الفلسطيني، لأن اعتماد غزة على التسهيلات المصرية بعيداً عن أي تقدم حقيقي على مستوى المصالحة يعزز من فكرة فصل غزة عن امتدادها الجغرافي الفلسطيني، وهو احتمال قد يبدده إشراك الإدارة المصرية للسلطة الفلسطينية في التعاون الاقتصادي وفي تعزيز التسهيلات المتبادلة، وهذا يدفع باتجاه تعزيز المصالحة الفلسطينية على المدى المتوسط والبعيد.

وبالعودة إلى اهتمام مصر بحضور الحكومة الفلسطينية في رام الله لهذه اللقاءات، فإن القاهرة تدرك أهمية وجود رام الله سياسياً، خاصةً وأن الحكومة الفلسطينية في رام الله تحظى بشرعية دولية، كما تحاول القاهرة تجنب أي انتقادات فلسطينية أو إقليمية حول هذه الخطوة، فضلاً عن اهتمام القاهرة بتحسين العلاقة مع رام الله، لأن الأخيرة تمتلك قدرة على المناورة أكبر من الفصائل في قطاع غزة أمام أى مساعي مصرية باتجاه ترتيب البيت الفلسطيني بحكم وضعها السياسي والجغرافي.

خيارات فلسطينية:

تنطوي الجهود المصرية على العديد من الإيجابيات لكنها لا تخلو من المحاذير السياسية، الفصائل الفلسطينية بدورها ليست أمام خيارين التجاوب مع جهود القاهرة أو عدم القبول خشية من بعض التداعيات السلبية، فثمة خياراً ثالثاً يقوم على قبول بالعرض المصري وربطه بمسارات المصالحة وتقنين الوضع في غزة وكذلك أنّ الهدوء في مقابل التسهيلات لا يشمل أي محاولة “اسرائيلية”  المساس بالوضع الفلسطيني القائم في الضفة الغربية والقدس، أي إبقاء التفاهمات في حدود الترتيبات الأمنية الخاصة برفع الحصار عن القطاع وتحاشي إعطاء صبغة سياسية أو صفة مستدامة لهذه الترتيبات، حيث أن هذه الصيغة تعتبر مقبولة بالنظر إلى إمكانية تحصيل بعض المكاسب المتعلقة بتخفيف آثار الحصار الإسرائيلي ومن جهة لا تبقى أيدي الفصائل مغلولة أمام أي تطورات تقوض المعادلات السياسية والأمنية والعسكرية الحالية في كل من الضفة الغربية والوضع الديني للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس،خاصةً وأن هناك العديد من المؤشرات على نية الاحتلال التقدم خطوة باتجاه حسم ملفات استراتيجية له في الضفة الغربية والقدس وهو ما لن يقبل به الفلسطينيون في مقدمتهم فصائل المقاومة الفلسطينية حيث أنّ أي مكاسب يمكن أن تتحقق في غزة لن تعوض ما يمكن أن يخسره الفلسطينيون في باقي الأراضي الفلسطينية .

في سياق متصل، فإن قبول الفصائل في غزة لأي ترتيبات خاصة بالتهدئة، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين رام الله وغزة، وربط هذه الجهود مع مسار بناء المرجعيات وتجديد الشرعيات الفلسطينية، وفي هذا الإطار من المهم الضغط من أجل استعادة مسار الانتخابات الفلسطينية أو في الحدّ الأدنى استكمال استحقاق الانتخابات البلدية في قطاع غزة، تجديد شرعية جميع الهيئات والاتحادات والنقابات  وكذلك تجديد الانتخابات الاتحادات والنقابات، لأن ذلك من شأنه أن يقلص من حجم الضغوط السياسية والاقتصادية وإظهار الإرادة الوطنية الفلسطينية و بناء النموذج الفلسطيني في الإدارة والحكم وفقاً للأسس الديمقراطية وتمتين قواعد المؤسسات الفلسطينية المستقلة عن منظومة الاحتلال الأمنية والاقتصادية.


[1] الجزيرة نت، وفد من حماس…يصل القاهرة.. ما سبب الزيارة، 4.6.2023، https://2u.pw/NJZkjNx

[2] العربي الجديد، حماس تعلن حلّ اللجنة الإدارية في غزة وتوافق على إجراء انتخابات عامة، 17 سبتمبر 2017، https://2u.pw/GTY9If9

[3] ضم الوفد الوزاري تسعة وزراء، وهم؛ وزراء الخارجية والمغتربين، الداخلية، الاقتصاد الوطني، الصحة، المواصلات، الأشغال العامة والإسكان، التعليم العالي، الأوقاف، وسلطة الطاقة.

[4] سكاي نيوز عربية، لبحث سبل المصالحة.. بدء توافد الوفود الفلسطينية على القاهرة، 8 يونيو 2021، https://2u.pw/wvQnX0C

[5]  وكالة الأناضول، “حماس”: هنية يبحث في القاهرة المصالحة وأوضاع القدس والضفة، 13 فبراير 2023، https://2u.pw/tWpo7i5

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق