مقالات رأيوجهات نظر

“صراع العروش” النسخة الفلسطينية.. ماذا بعد عباس؟

مقال مترجم من صحيفة الغارديان البريطانية للكاتبة بيثان مكيرنان

تقديم:

في ضوء التسريبات الأخيرة التي هاجم فيها حسين الشيخ محمود عباس، يتحدث المقال عن مرحلة ما بعد محمود عباس في فلسطين في ظل حالة الانقسام الفلسطيني والتنافس الحاد على خلافة عباس داخل حركة فتح. يناقش المقال السيناريوهات المحتملة لخلافة عباس مع التركيز على احتمالية خلافة حسين الشيخ لعباس، مؤكداً أن الرئيس القادم للسلطة سيواجه تحديات جمة على صعيد توحيد الضفة وغزة. تنقل مجموعة الحوار الفلسطيني ترجمة المقال مع الإشارة إلى أن الآراء الواردة فيه لا تعبر بالضرورة عنها.

في كانون الثاني من العام ٢٠٠٥، كان محمود عباس -البالغ من العمر ٧٠ عاماً في ذلك الوقت- قد أطلق حملته الانتخابية في الترشح لمنصب رئيس السلطة الفلسطينية، وفي يوم غائم معتدل الجو من وصوله مدينة جنين بالضفة الغربية المحتلة، قوبل بالترحيب من حشد بلغ العشرة آلاف، مع أنه لم يكن ذلك الشخص الذي يمتع بكاريزما الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي لم يكن قد مضى على وفاته شهرين، ومع ذلك رحبت الجماهير بعباس كمصلح ورجل سلام.

وبعد بضعة أسابيع من حملته الانتخابية، فاز أبو مازن بأغلبية كبيرة، ما أثار إعجاباً كبيراً للإسرائيليين والأمريكان كونه المهندس الرئيسي لاتفاقية أوسلو، وعلى عكس عادة عرفات فقد شجب أبو مازن -وما يزال- المقاومة الحاصلة من الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

كان لعباس وفلسطين ككل أمل في إحداث مستقبل جيد للفلسطينيين؛ لكن بعد عام واحد فقط، نشب خلاف داخلي في أوساط حركة فتح على قوائم المرشحين، وما إن فازت حركة حماس في الانتخابات البرلمانية، اعترضت السلطة الفلسطينية بعدها على تلك النتائج، وسرعان ما آل الأمر إلى “حرب أهلية” أفقدت السلطة سيطرتها على قطاع غزة، وهذا يستدعي التذكير أن منصب رئاسة عباس تمثل في طريقة حكم مستبدة إقليمياً ونمطيّة، مصممة على التشبث بالسلطة.

وبعد ما يقرب عقدين من الزمان، لم تعد اتفاقية أوسلو تجدي في معالجة الواقع السياسي على الأرض؛ عدا عن أن حركة فتح والسلطة التي يترأسها أبو مازن ومنظمة التحرير الفلسطينية لم تحظَ بدعم كبير من الجيل الجديد، نظراً لما تؤديه هذه الجهات من ممارسات قمعية ضد الشعب الفلسطيني وتنسيق أمني مع سلطات الاحتلال، ولطالما انتهجت السلطة الفلسطينية ومن لف لفها من المؤسسات الأمنية التابعة لها سياسات قمع وإسكات للنشطاء من جهات مختلفة سواءً كانت تلك جهات نقابية مدنية أو صحافية وحتى المواطنين العاديين ممن تجرأوا على كتابة منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد أفعال السلطة.

اتصالاً بهذا السياق، عزز محمود عباس على مر السنين سيطرته على الهيئات المؤسسية، مهمّشاً البرلمان الفلسطيني، حيث كان حل السلطة التشريعية في العام ٢٠١٨ ذو دور واضح في تعيين أعضاء حلفاء في مناصب عليا في منظمة التحرير.

على حد تعبير كتاب سيرته الذاتية، يبلغ محمود عباس من العمر الآن ٨٧ عاماً، وحالته الصحية متردية، كونه من الأشخاص المدخنين لفترة طويلة، زار المشفى الصيف المنصرم مرتين، وتنتشر الإشاعات عبر الانترنت بين الحين والآخر عن خبر وفاته، أبو مازن هو آخر أفراد الجيل المؤسس للحركة الوطنية الفلسطينية، عاش الجزء الأكبر من تاريخ شعبه؛ لذا فإن وفاته ستمثل لحظة مهمة في قصة القضية الفلسطينية.

تشكل الأحداث القادمة سؤالاً محيراً للكثير؛ فلم تُجرَ انتخابات فلسطينية منذ ١٦ عاماً، ولم يعين عباس خلفاً رسمياً له، وتتسق هذه الحالة مع انعدام الثقة لدى البعض من الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الجزائر لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في عام واحد.

في ظل عهد مخيب للآمال، ما يزال من غير الواضح ما سيحدث في الأيام والأسابيع التالية لوفاته، فمن الممكن أن تحدث سيناريوهات بعضها عنيف، ما يجعل الدولة الفلسطينية التي كافح من أجلها في شبابه بعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى.

يقول ناصر القدوة المطرود من اللجنة المركزية لحركة فتح بعد مجابهته لعباس في انتخابات ٢٠٢١: “أبو مازن ذو عاطفة حادة؛ يحب بشدة ويكره بشدة، وهذا ما يميزه، كان عباس في ظل عرفات لما يقارب ١٥ أو ٢٠ عاماً، وعندما رحل حان الوقت بالنسبة له لينتقم ويلمع نفسه”.

ولد أبو مازن عام ١٩٣٥ في الجليل لعائلة من الطبقة المتوسطة التي هاجرت إلى العاصمة السورية دمشق عام ١٩٤٨، درس القانون وعمل مدرّساً قبل الانتقال في الخمسينيات من القرن الماضي إلى وظيفة في الخدمة المدنية في قطر، حيث التقى بعرفات وانخرط في حركة فتح الوليدة ومنظمة التحرير، حصل لاحقاً على درجة الدكتوراة في موسكو، حيث كتب أطروحة يتحدث فيها عن تعاون الصهاينة مع النازية في الهولوكوست، يُزعم أنه كان عميلاً للاستخبارات الروسية في الثمانينيات كون أسلوبه في القيادة الحالية مستوحى من الأسلوب السوفيتي.

كان أبو مازن دبلوماسياً وليس محارباً، عاش في دمشق مع زوجته وأبنائه الثلاثة لعقود من الزمن، وجمع التبرعات وعزز العلاقات الدولية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كان من أوائل المدافعين عن المفاوضات مع دولة الاحتلال، فضلاً عن مشروع حل الدولتين، لكن تم إبعاده إلى حد كبير عن المسرح السياسي بعد إنشاء السلطة عام ١٩٩٤، وبناءً على طلب من واشنطن، عينه عرفات على مضض رئيساً للوزراء في العام ٢٠٠٣، وبعد وفاة “الرجل العجوز” في العام التالي، كان أبو مازن مهيئاً في وضع جيد لقيادة السلطة.

يشكل حكم عباس في الوقت الحالي شبكة من التناقضات، فهو سيد المؤامرات في القصر حيث يلعب دور الحليف والمؤيد داخل دوائر فتح ومنظمة التحرير والسلطة ضد بعضها البعض، كما أنه يحظى بتقدير نظرائه الدوليين الذي يثنون على دوره المحوري في اتفاقية أوسلو، وعلى الوجه الآخر، فهو يتعرض للسخرية في المجتمع الفلسطيني باعتباره الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، وفي إسرائيل كوجه ثالث، لا يُنظر إليه كشريك في عملية السلام ولا كعدو لدولة الاحتلال، إنما الحصن المنيع في العمل ضد حركات المقاومة كحماس والجهاد الإسلامي.

يقول جبريل الرجوب -أمين عام اللجنة المركزية لحركة فتح- عن محمود عباس: “نظامنا ليس نموذجاً أفلاطونياً، لكن أبو مازن هو الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي يتمتع بشرعية منتخبة، إنه الوحيد الذي لديه القدرة على القيادة”.

بموجب القانون الفلسطيني، في حال استقالة الرئيس أبو مازن أو وفاته من المفترض أن يصبح رئيس مجلس النواب رئيساً مؤقتاً ويصدر مرسوماً بالانتخابات خلال ٦٠ يوماً، وفي ظل استمرار حالة الانقسام بين حركتي فتح وحماس منذ العام ٢٠٠٦ فإن آلية الانتقال ستكون شبه مستحيلة، ولا توجد بعد آليات مؤسسية واضحة لإدارة الانتقال.

بات من المتوقع على نطاق واسع أن يتولى حسين الشيخ -الموالي لعباس والذي تم تعيينه في أيار ٢٠٢٢أميناً عاماً للجنة التنفيذية للسلطة الفلسطينية- منصب رئيس السلطة ومنظمة التحرير، حيث الشيخ البالغ من العمر ستين عاماً مسؤولاً سابقاً في التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، وفي ذات الوقت لديه تهم بالفساد عدا عن كونه لا يحظى بشعبية كبيرة.

وفي مقابلات معه كان يركز دائماً على مسألة انتخاب الرئيس الفلسطيني المقبل، وذلك لن يكون إلا في حال سمحت دولة الاحتلال لسكان القدس الشرقية المحتلة بالمشاركة في الانتخابات، وهو أمر غير مرجح، كما شدد على أهمية علاقة السلطة بإسرائيل، وتم تفسير زيارة حسين الشيخ إلى واشنطن في أكتوبر ٢٠٢٢ على أنها دعم  من البيت الأبيض له في خلافته لأبو مازن، ومن الجدير بالذكر وجود العديد من المنافسين على هذا المنصب داخل حركة فتح المتأزمة داخلياً، ومنهم ماجد فرج رئيس جهاز المخابرات العامة، ومحمود العالول نائب رئيس حركة فتح.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أحد المنافسين “اللدودين” ضمن هذه الحالة وهو الأسير المحكوم بالسجن مدى الحياة مروان البرغوثي، والذي يحظى بشعبية كبيرة في الشارع الفلسطيني، حيث كان قد رشح نفسه من قبل للانتخابات في جولة ٢٠٢١ الملغاة، وعدو منافس آخر هو محمد دحلان الذي يعيش في منفاه “الاختياري” في أبو ظبي، فهو يلعب دوراً إقليمياً مؤثراً ويعتقد أنه على صلة بالجماعات المسلحة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

قد يؤدي الصراع على السلطة داخل حركة فتح والفراغ الكبير إلى تأجيج موجة العنف التي تجتاح الضفة الغربية، إثر تشكيل الجماعات المقاومة من الجيل الجديد وتنفيذ عملياتها ضد قوات الاحتلال، ومن تلك الاحتمالات أيضاً نشوب حرب أهلية أخرى مع حركة حماس، أو انتفاضة ضد السلطة على غرار الربيع العربي أو انتفاضة ثالثة ضد دولة الاحتلال.

دائماً ما تكون دولة الاحتلال على استعداد لجميع السيناريوهات المذكورة آنفاً، وبرغم عدم إجرائها تدريبات عسكرية منذ ٢٠١٨، وفقاً لصحيفة يديعوت أحرونوت، فإن خطة جيش الاحتلال التي تحمل الاسم الرمزي “غروب الشمس” تتعامل مع النتائج التي تلي وفاة عباس مباشرة، بنشر قوات كبير في جميع أنحاء الضفة الغربية، تحسباً لأي عمليات محتملة قد يشنها الفلسطينيون، خطة ثانية تم تصميمها، وأشير إليها باسم “صراع العروش”، فهي تتضمن الوضع الذي تحاول فيه الجماعات الفلسطينية المسلحة والفصائل السياسية المتنافسة السيطرة على مناطق مختلفة من الضفة الغربية.

تذكر الدكتورة حنان عشراوي -التي استقالت من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ٢٠٢٠ أن النظام السياسي بحاجة إلى تجديد وتنشيط- وأن التركيز على ما سيحدث في اليوم التالي لوفاة أبو مازن يحجب حقيقة كامنة في أن مشروعه السياسي قد فشل بالفعل.

وتضيف عشراوي أن الوضع العام في انحدار مستمر، وأن هذا ليس خطأ عباس بالكامل، إنما نحن نعيش في ظل احتلال قاسي يعمل جاهداً لإخفاق السلطة الفلسطينية، وتقديم أفرادها “كمقاولين” في الباطن لحماية أمن دولة الاحتلال، وكلما كان النظام أضعف، كما انغلق على نفسه ومارس القمع بشكل أكبر، لا أعرف الشكل الذي ستكون عليه الحالة الفلسطينية مستقبلاً.. لربما تتخذ شكلاً سلمياً؛ لكن كلما طال أمد الوقت لرؤية تغيير حقيقي، سيصبح العنف هو سيد الموقف، وإن لم تسمح الطرق الديمقراطية السلمية لنقل السلطة، سيجد الشعب وسائل أخرى للتعبير عن أنفسهم.

حتى وإن كان الانتقال إلى حقبة ما بعد أبو مازن هو انتقال سلس، وحتى لو أجريت انتخابات حرة نزيهة، وسواءً فازت فتح أو غيرها من الفصائل، فإن السلطة المقبلة ستظل تواجه مشاكل كبيرة، وستستمر مسائل تعميق الانقسام في ساحة السياسة الفلسطينية، بالإضافة إلى العلاقة مع دولة الاحتلال.

استطاع عباس أن يطالب بميراث المشروع الوطني الفلسطيني عندما انتخب عام ٢٠٠٥، ومن سيحل محله -بديهياً أن يكون مرشحاً حزبياً- سيواجه شراً كبيراً في محاولة أعادة توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ظل ما نشهده من استمرار السياسية الإسرائيلية في مسيرتها نحو اليمين، فإن استئناف عملية السلام هو حلم بعيد المنال.

“الصبر والصمود” شعار أبو مازن السياسي.. إرثه المبدد دليل كافٍ وواضح على أنه لم يعد مناسباً لهذا الغرض.

الوسوم
اظهر المزيد

رانيا أبو شمالة

كاتبة ومترجمة في مجموعة الحوار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق