تقدير الموقف

تنظيم المستوطنين، “فتية التلال” (النشأة، الإيديولوجية، البنية، الارتباطات)

الجزء الثاني

التعريف والنشأة: 

مرّت نشأة تنظيم “فتية التلال” بعدّة محطّات، إلى أن تبلورت في إطارها الحالي المتمثل بأنّه تنظيمٍ عشوائي يسير وفق خططٍ توسعية منظّمة في الاستيطان الرعوي، ولا يمكن اعتبار هذا التنظيم عابراً، وإنما كان نواةً لتوجّهاتٍ أصولية مختلفة ظهرت أوساط الصهيونية الدينية منذ عام 1967 حتى الآن، وكان المثال الأبرز لها قبل “فتية التلال” هو الحركة السرّية اليهودية.

ولكن، في سياق مسمّى “فتية التلال”، هو تنظيم ليس له تاريخ محدّد لظهوره، وإنما بدأ تكتله التنظيمي بتوافد العديد من الشبان المستوطنين تلبيةً لما أعلن عنه (أرئيل شارون) عام 1998 حول دعوة الشبان للسيطرة على التلال والمرتفعات في الضفة الغربية، قائلاً: “يجب على كل شخص التوجه نحو استيلاء أكبر قدر من التلال … فكلّ ما نسيطر عليه يبقى معنا، وكل ما لا نسيطر عليه يبقى معهم”. الأمر الذي شكّل نقطة تحول استراتيجية فيما يتعلق بسياسة السيطرة على التلال، من خلال الدفع بمجموعات متطرفة من المستوطنين مع توفير الدعم المادي واللوجستي لها تحت غطاء إسرائيلي رسمي غير مُعلن.

يتكون تنظيم “فتية التلال” من مجموعات متفرقة من المستوطنين المتطرفين الذي يقطنون في بؤر استيطانية أو مبانٍ فردية متفرقة في مناطقٍ مفتوحة على التلال في أنحاء الضفة الغربية، منتشرين على شكل خلايا متناثرة، تتمركز في الأراضي القريبة من المستوطنات بهدف توسيع نطاق السيطرة الاستيطانية متذرّعين برعي المواشي؛ لتحقيق التمدّد الصامت على حساب مساحات الرعي الخاصة بالفلسطينيين، وإنشاء البؤر الاستيطانية. 

ويقضون معظم أوقاتهم في العراء متنقّلين بخيمهم وأكواخهم ما بين البؤر الاستيطانية في تلك التلال، إلى جانب قضائهم جلَ أوقاتهم في قراءة التعاليم التوراتية التي تعدّ نواة الفكر الإيديولوجي المتطرف الذي يتقاطع مع الصهيونية الدينية، فهم يؤمنون بأحقيّتهم بكلّ فلسطين لتحقيق حلم إقامة مملكة داود كما يؤمنون، لذا يسعون إلى تعزيز السيطرة الصهيونية على الأرض من خلال ترهيب السكان الفلسطينيين تمهيداً لطردهم وإنشاء بؤر استيطانية. 

الطبيعة الاجتماعية والتنظيمية:

ينفرد أفراد هذه المجموعات بنمطٍ معيشي ووضعٍ اجتماعي مختلف مقارنة بباقي التجمعات الاستيطانية في الضفة الغربية؛ فمعظمهم طُردوا من أماكنهم الخاصة مثل منازلهم ومدارسهم وحركاتهم الشبابية، مما تسبّب في سخطهم على وضعهم في أماكن وجودهم تاركين كلّ النظم التربوية والاجتماعية في دولة الاحتلال، متّجهين نحو التلال، بعدما دفعهم الواقع إلى التمسّك بالمعتقدات الدينية المتطرفة التي أصبحت السمة الرئيسية في صياغة توجهاتهم وتحرّكاتهم.

ويدلّ ذلك على أن الإيديولوجيا ليست هي السبب الرئيسي وراء توجههم نحو التلال والانضمام إلى تنظيم “فتية التلال”، إنما هو البديل للواقع الذي نُبذوا منه، لذا غلب عليهم الطابع العشوائي الفردي بعيداً عن التحرك ضمن تكوينٍ أسري كباقي التجمعات، ولكنّ هذا لا يسري على جميع المشاركين، فهناك العديد ممن جاؤوا بموافقة الأهل الذين هم من المحاربين القدامى. وهنا تتكشّف ثلاثة أسباب دافعةً للتوجّه نحو التلال، هي الدافع الشخصي المتمرّد على الواقع، والدافع القومي، والدافع اللاهوتي الصهيوني.

يتّسم عمل “فتية التلال” بالمشاركة الفردية التي لا تنطوي عادةً على تنظيمٍ جماعي، فهم ليسوا حركة رسمية، ولا يوجد لديهم زعيم رسمي أو مبادئ مُعلنة، وتنتقل المعلومات حول الصعود إلى التل بين الشباب شفهياً، فيما يكون الشرط الوحيد للالتحاق بالمجموعات المنتشرة على التلال هو توفر الرغبة والاستعداد، دون أي شروطٍ أو قيودٍ أخرى. ويبقى حاجز الفصل بين الجنسين هو الحاجز الوحيد الذي اُشترط إثر التحاق الفتيات بمجموعات “فتية التلال”، بعد أن كانت محاولات الفتيات تُقابل بالرفض في السابق.

وقد شكّل عدم وجود نظام رسمي في إدارة مجموعات “فتية التلال” عاملاً أساسياً في الحفاظ على نمط حياةٍ يضمن مساحةً من الحرية الشخصية لأفراده، في ظل عدم وجود أي إطار مؤسسي. أما بالنسبة إلى تحديد الضوابط الداخلية من جداول العمل والدراسة والصلاة فيتولّاها رجلٌ مسنّ يعيش على التل مع الفتيان.

ينكبّ أفراد هذا التنظيم، إلى جانب امتهانهم حرفة رعي القطعان للتنقل ما بين التلال والمنحدرات الجبلية في الضفة، على تعلّم اللغة العربية والعقلية العربية رغبةً في تسهيل عملية اختراقهم لتلك المناطق. وأما بالنسبة إلى أشكالهم؛ فمظهرهم الخارجي عبارة عن شعر طويلٍ مستعار، ولحى طويلة، وقبعات كبيرة، والفتيات يلبسن تنانير “تقبيل الأرض”، وغيرها الكثير من التفاصيل المقتبسة من أوصاف الملابس في زمن الكتاب المقدّس أو فترة الهيكل الثاني وفق ما ورد في تعاليمهم التوراتية. 

وفي المقابل، فإن طبيعة نشأتهم الاجتماعية كانت محلّ انتقاد الكثيرين في المجتمع الإسرائيلي، خاصةً فيما يتعلق بتدابير الرعاية الاجتماعية، في ظل عدم وجود أيّ نوع من الارتباط الأسري  الذي يقوّمهم، مما قد يدفعهم للانزلاق نحو الجريمة، خاصةً أن الأعمال الإرهابية التي يقومون بها تبقى دون محاسبة قانونية قد تؤدي إلى نتيجة عكسية، محوّلةً إياهم إلى مصدر قلقٍ أمني في داخل المجتمع الإسرائيلي من خلال ارتكاب جرائم تزعزع الاستقرار الداخلي، وهو ما بات واضحاً في أكثر من مشهد، مثلما وقع؛ من مهاجمة أفراد من “فتية التلال” موقعاً للجيش الإسرائيلي وكتابة عبارات “الشرطة النازية” إثر إخلاء البؤرة الاستيطانية في يتسهار، وغيرها من الانتهاكات ضد مؤسسات دولة الاحتلال الأمنية والعسكرية، بحجة التواطؤ ضد مخططاتهم الاستيطانية.

الأعداد والتركيبة النوعية:

يتكون تنظيم “فتية التلال” من مجموعة من المستوطنين الشبان، الذين لا تتجاوز أعمارهم العشرينات، وتشير المعطيات، بشكلٍ عام، إلى وجود 130 بؤرة استيطانية موزعة على أماكنٍ متفرقة من مرتفعات وتلال الضفة الغربية، يقطنها قرابة 25 ألف مستوطن، ينفّذون أعمالهم الترويعية المتكررة ضمن سياسة “تدفيع الثمن” بين الفينة والأخرى. أما بالنسبة إلى أعداد منتسبي “فتية التلال” من بين مجمل مستوطني البؤر في الضفة، فلا يوجد معطيات ومؤشرات دقيقة حولها، ولكنّهم يشكلون نسبةً ضئيلةً من بينهم مقارنة بباقي الجماعات الاستيطانية الصهيونية؛ وتشير أغلب التقديرات إلى أن أعدداهم تتراوح ما بين 400-450 شخصاً، منتشرين في نحو 50 بؤرة استيطانية ونحو 30 مزرعة رعوية في أنحاء الضفة الغربية.

وينشؤون في إطار خلايا شبابية مكوّنة من فتيان وفتيات دون أي تكوينٍ أسري كما العائلات القاطنة في المستوطنات، ويصنّف قسمٌ منهم ضمن الجيل الثاني من المستوطنات القديمة ممن اتخذوا خُطا والديهم مساراً لهم، من خلال السعي إلى استيطان مناطق جديدة في أنحاء الضفة الغربية. والبعضُ الآخر شباب متدينون أتوا من داخل المدن إلى التلال، ينتمي بعضٌ منهم إلى أطرٍ دراسية رسمية أو شبه رسمية أو بديلة، ضمن تيار التعليم الديني للدولة. وأحياناً تكون هذه الأطر ذات طبيعة تأهيلية فقط، وأحياناً أخرى تشمل محتوى الاستيطان الزراعي والرعوي.

يتشبّع أفراد “فتية التلال” بمجموعة من الأفكار الإيديولوجية المتطرفة تجاه العرب والمسلمين، وهذا ما يظهر من كتاباتهم على جدران المنشآت التي يعتدون عليها، ومن أبرزها: “الموت للعرب”، “اليهود لا يسكتون”، “إما الطرد أو الموت”. فيما يترعرعون ضمن تجمّعات اجتماعية داعمة لهم في مستوطنات الضفة الغربية من جهة، ويتمتعون بدعمٍ قضائي وقانوني من جمعية “حنانو” القانونية ذات الصلة بـ “حركة كهانا” الحركة الأم من الناحية الإيديولوجية والداعم الرئيسي لتوجهات التنظيم المتطرفة من جهةٍ أخرى. كما يتلقى أفراد التنظيم دعماً وحمايةً واسعتين من قبل كلّ الجمعيات اليمينية المتطرفة التي تتقاطع من الناحية الإيديولوجية مع أفكار التنظيم الداعية إلى ضرورة طرد جميع الفلسطينيين من كل فلسطين.

التوزيع الجغرافي:

استطاعت “مجموعات التلال” بمختلف تشكيلاتها السيطرة على ما يقارب 170 بؤرة استيطانية منذ التسعينيات حتى الآن، وتستمر محاولاتُهم لإنشاء بؤرٍ جديدة في أماكنٍ متفرقة من الضفة الغربية، وفي الأغلب يتمحور التوزيع الجغرافي لشباب “فتية التلال” نواحي جبل الخليل ومستوطنة بيت عين، مستغلّين توجهات الحكومات الإسرائيلية بشقّيها اليساري واليميني المتطرف الداعمة لأعمالهم وتحركاتهم الإرهابية، ومؤخراً ازدادت رقعة انتشارها الجغرافي بشكلٍ ملحوظ، فامتدت إلى مساحات شاسعة من تلال مرتفعات نابلس المحاذية لمستوطنة “يتسهار”.

وفي هذا السياق؛ استطاع فتية التلال تطوير منظومة بناء فعّالة لإنشاء البؤر الاستيطانية بسرعةٍ هائلة وكفاءةٍ عالية، إذ تشير التقارير إلى أن عملية البناء تستغرق نحو 24 ساعة فقط، مما يؤهّلهم لتعزيز إعادة إنشاء البؤر التي تُهدم في وقتٍ قياسي من جديد، ويمكّنهم من سرعة الانتشار في التلال. ولتحقيق ذلك أقاموا معسكرات تدريبٍ لأولاد “فتية التلال” لتأهيلهم على بناء المنازل في البؤر الاستيطانية بسرعةٍ كبيرة وكفاءة عالية. ويوفرون الأموال اللازمة لعمليات البناء من خلال حملات تبرعٍ متنوعة إلى جانب الدعم اللوجستي والأمني الرسمي من قبل دولة الاحتلال.

على الرغم من فعالية المقاومة الباسلة للفلسطينيين التي تواجهها هذه الجماعات في منع الكثير من محاولاتهم في السيطرة على الأراضي والمراعي الجبلية، إلا أنها لم تستطع إيقاف الاعتداءات والأعمال الإرهابية المتكررة لأفراد تنظيم “فتية التلال” من السيطرة على الأراضي أو الاعتداء على ممتلكاتهم. كما أن ضعف الإمكانات وعدم وجود حماية أمنية للفلسطينيين يعيقان قدرتهم على التصدي لمثل هذه الأعمال من جانب، ويتسبّبان في فقدانهم لعنصري الأمان والاستقرار، في ظلّ تكثيف هذا التنظيم لهجماته الإرهابية المتكرّرة من جانبٍ آخر.

ويتضح من خريطة الانتشار الجغرافي لجماعات تنظيم “فتية التلال” في المرتفعات الجبلية في الضفة أنها تتحرّك وتنشط وفق خطة استراتيجية مدروسة يُراعى فيها الجانبان الأمني والاستراتيجي، من حيث محاذاتها للمستوطنات القائمة بالفعل لتسهيل عملية تبييضها وشرعنتها من خلال إلحاقها بتلك المستوطنات فيما بعد. ويُستدل من ذلك على إشراف المؤسستين الأمنية والعسكرية لجيش الاحتلال على عملية وضع خطط الانتشار لأفراد هذا التنظيم، فمثلاً معظم البؤر الاستيطانية لفتية التلال تقع على مواقعٍ استراتيجية من الناحية الأمنية، مثل البؤر القريبة من مستوطنة عوز تسيون، فتُرفض جميع خطط إخلائها باستمرار نظراً لأهميتها الأمنية.

الانتماء العقائدي والتنظيمي:

يتخذون من التلال مواقع لتمركزهم وتوجيه أنشطتهم الاستيطانية واعتداءاتهم الإرهابية ضد الفلسطينيين وفق عقائدهم الإيديولوجية المتطرفة التي تقضي بمحاولة تعزيز الاستيطان بتوسيع رقعته من خلال السيطرة على التلال المحاذية للمستوطنات القائمة بالفعل، ويتفاخرون بالتفاني في خدمة الصهيونية على حدِّ تعبيرهم، منتقدين عمل الشركات الاستيطانية التي تقيم أشهراً معدودة، في حين أنهم يقيمون منذ سنوات دون ترك البؤر الاستيطانية موطّدين الاستيطان بشكل فعالٍ وبوتيرةٍ أسرع.

وفي هذا السياق؛ يتحركون وفق رؤيةٍ صهيونية مترسخة في أذهانهم تُعرف باسم “إظهار الوجود اليهودي”، تؤمن بضرورة العودة إلى المدن التي كانت قبل اتفاقيات أوسلو وفق مبدأ مفاده “الحرب لم تنتهِ، هذه المدن فارغة ولا يوجد سبب يمنعنا من الاستقرار هناك”. لذا يبقى العامل الإيديولوجي لأفراد “فتية التلال” هو المحرك الرئيسي والمحفز الوحيد لهم على البقاء في التلال خدمةً للمشروع الصهيوني في ظل ظروف الطقس الصعبة من بردِ الشتاء القارص وحرِّ الصيف الشديد، إلى جانب الظروف المادية الصعبة، والعيش بلا كهرباء وماء.

وفي ظل هذا الوضع؛ يحافظون باستمرار على تعليمهم التوراتي من خلال التردد على مراكز الحاخامات المرافقين لهم[1]، مما تشكّل لديهم أفكار متطرفة مستمدة من كتابات الحاخام كاهانا والحسيدية والحاخام كوك، دفعتهم إلى الانفصال عن آلية عمل الحركة الاستيطانية واليهودية الصهيونية الدينية مُتبنّين سمات خاصة بهم متسبّبةً في خلافاتٍ بين المستوطنين القدامى في مجلس المستوطنات “يشع”، والصهيونية الدينية.


[1] يعدّ “مائير إيتنغر” المفكر الإيديولوجي الأكثر مركزية لليمين المتطرف في التلال، ويعد أيضاً امتداداً لخط جدّه “مائير كهانا”، ويُشتهر بكلماته لتبرير الإرهاب اليهودي، فقد أصبح رمزاً يقود طريق المقاومة اليمينية المتطرفة ضد التوجه العلماني للدولة الصهيونية. ومن أهم الخطابات التي وجهها مؤخراً لـ “فتية التلال” قائلاً: “علينا التعامل مع مشكلة صعبة للغاية لدى العرب، فهم يريدون أرض إسرائيل بأكملها. علينا أن نستقر في نابلس وأن نكون مستعدين لمواجهتها”.

بناءً عليه؛ يجري تنظيم معسكرات تدريبية على المستويين المفاهيمي والعملي للأشخاص المستجدّين في التلال، يتعرّفون خلالها على فنون الزراعة والبناء ويتلقون دروساً حول الرؤية الصهيونية التي تشكّل الأساس الإيديولوجي لأفراد “فتية التلال”، والتي تقوم على ضرورة احتلال كل فلسطين وفق حدود الوعد الإلهي كما يدّعون، بل وتتخطّى ذلك عبوراً إلى الأردن. ولكي تتحقق هذه الرؤية يؤمنون بضرورة الاعتداء على العرب في أماكن وجودهم دافعين بالوضع الأمني نحو التدهور المتعمّد، وفق مبدأ “الانتشار على أوسع نطاق، وأسرع ما يمكن، على أكبر مساحةٍ ممكنةٍ من الأرض”.

أما بالنسبة إلى الانتماء التنظيمي والحركي لأفراد “فتية التلال”، فينتمون إلى عددٍ من التيارات الفكرية المتطرفة، فبعد فكّ الارتباط بمستوطنات قطاع غزة عام 2005، وإثر تشتّت الآلاف من المستوطنين الذين أُطلق عليهم “المتسلّلون”، اتحد معظم الشباب في التلال حول حركة “شباب من أجل أرض إسرائيل”، ولكنها انقسمت فيما بعد إلى عدة تيارات، من أهمها؛ “حركة ناكلا أو نحالا” و”نواة المدن العبرية”، إلا أن نشاط الحركتين في بناء بؤر التلال توقف هو الآخر بعد فترة وجيزة. وتحولت حركة “ناحلا” إلى منظمات احتجاجية عامة. مما دفع أفراد “فتية التلال” إلى الانضمام لحركاتٍ أخرى؛ فبعضهم انضمّ إلى حركة “آري يشاج” بقيادة الحاخام أفراهام سيغرون، وحركة “دريش حاييم” تحت سلطة الحاخام يتسحاق غينزبرغ، في حين بقي البعض الآخر دون أيّ انتماءٍ حركي أو تنظيمي.

ومن جانبٍ آخر؛ كانت الرؤية الإيديولوجية هي السبب الرئيسي في نبذهم لكل من هو مختلف عنهم حتى داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو ما انعكس على تصرفهم وأعمالهم الفوضوية العشوائية، فهم على تضادّ مع السلطة، ومع كل من لا يُشاركهم أعمالهم الإرهابية في التلال للسيطرة على الأرض وانتزاعها من أيدي الفلسطينيين. فهذا كل ما يعنيهم وفق إيمانهم بالتوراة، وما دون ذلك من أنظمة مؤسسية سواء الدولة أو الأسرة فلا يعني لهم شيئاً، ويحاولون إثبات أنهم قادرون على تحقيق ما لا تستطيع الأغلبية الصامتة في دولة الاحتلال تحقيقه، وهذا ما يتضح من أعمالهم الإرهابية المرتكبة مثل حرق محمد أبو خضير وعائلة دوابشة وغيرهم الكثير.

الدعم المادي واللوجستي:

يشهد تنظيم “فتية التلال” في الآونة الأخيرة زيادةً ملحوظةً في أعداد الملتحقين به من الشبّان المستوطنين المؤهّلين إيديولوجياً، وزيادةً في إمكانيات الدعم المقدم لها من قبل الحكومات الإسرائيلية في إطار سياسات توسيع دائرة الاستيطان في المرتفعات الجبلية المحاذية للمستوطنات. فقد أطلقت الحكومة الحالية ذات التوجه اليميني المتطرف مؤخراً مشاريعَ داعمة لتوجهات “فتية التلال”. إضافةً إلى كونها تتلقى دعماً واسعاً من منظمات صهيونية عدة مثل “أمانا” الذراع الاستيطاني لحركة غوش إيمونيم التي توفر الإمكانيات اللازمة لإقامة البؤر الاستيطانية من حيث التوجيه الجغرافي وفقاً لمحاذاة المستوطنات القائمة بالفعل، لكي تكون عملية تبييضها وشرعنتها مرنة فيما بعد.

وفي هذا السياق، كشفت العديد من المصادر عن توجهات الحكومة اليمينية المتطرفة الحالية لإصدار مشاريع شرعنة البؤر الاستيطانية التي أقامها تنظيم “فتية التلال” في الآونة الأخيرة، لتضاف إلى المستوطنات التي جرت شرعنتها في أوقاتٍ سابقة في أماكن متفرقة من الضفة الغربية. ويهدف المشروع إلى توفير ميزانية ضخمة لتطوير البنية التحتية وشقّ الطرق الالتفافية، لإلحاق البؤر الاستيطانية في التلال –والتي سُمّيت بالمستوطنات الفتيّة- وضمّها إلى المستوطنات القائمة بالفعل والمحاذية لها.

ويترتب على هذه الخطة مصادرة مزيد من الأراضي من أيدي الفلسطينيين لإتمام المشروع المخطط في مرحلته الأولى لشرعنة 60 بؤرة استيطانية من منطقة جبل الخليل. وتأتي هذه الخطوة في سياق التوجه اليميني الحالي لقيادات الاحتلال المتطرفين الساعي إلى تكثيف الاستيطان، جنباً إلى جنب مع الإجراءات التعسفية التي تشهدها مناطق عدة في الضفة الغربية من قتلٍ ميداني وعمليات اغتيالٍ متكررة.

إضافةً إلى ذلك، تسعى الأجهزة الأمنية والعسكرية لدولة الاحتلال إلى توفير الحماية اللازمة لأفراد الجماعات الاستيطانية عامةً، وتنظيم “فتية التلال” خاصةً، وذلك من خلال تقديم الدعم العسكري والأسلحة من جهة، وتوفير الغطاء القانوني من جهة أخرى، متسبّبةً في إطلاق أيدي أفرادها تعيث فساداً في ممتلكات الفلسطينيين. ويجري تقديم لوائح اتهام في حالاتٍ قليلة من مئات حالات الهجوم الإرهابي لأفراد “فتية التلال” في أغلب الأحيان. فعلى سبيل المثال؛ منذ عام 2009 على الرغم من تعرض ما يقارب 53 مسجداً وكنيسة للتخريب من قبل أفراد الإرهاب الصهيوني المحسوبين على تنظيم “فتية التلال”، إلا أنه لم تقدّم سوى تسع لوائح اتهام فقط، في حين أُغلِقت 45 قضية، وجرى حلّ قضيتين فقط من ضمن لوائح الاتهام التسع المقدّمة.

كما يُذكر أن الأجهزة الأمنية أغلقت ما يقارب 91% من ملفّات التحقيق التي فُتحت حول انتهاكات أفراد هذا التنظيم في الضفة الغربية، ما بين عامي 2005 و2019 مقيدةً أغلبها ضد مجهول، متذرّعةً بحججٍ واهية، فيما سُجّلت 3% فقط من ملفّات التحقيق بالإدانة بواقع 8 حالاتٍ فقط. مما يدلّ على التشجيع اللامتناهي لأفراد تنظيم “فتية التلال” من حيث الدعم اللوجستي، والحماية الأمنية، والغطاء القانوني من قبل مؤسسات دولة الاحتلال. 

وعلى الرغم من الدعم اللوجستي والأمني والقانوني المقدّم لأفراد تنظيم “فتية التلال”، إلا أنهم يشتكون نقص الدعم الأمني متّهمين قادة الحكومة بالتقصير في توفير سبل حمايتهم، مما دفعهم إلى حماية أنفسهم بما هو متوفر لديهم من هراوات وحجارة أمام مجموعات العرب المهاجمين لهم حسب ادّعائهم. ولكن يتضح من المشاهد المتداولة لأفراد هذا التنظيم في التلال عكس ذلك تماماً؛ فهم مسلّحون بأحدث الأسلحة، ويتلقّون تدريبات عسكرية عدّة تؤهّلهم لحمل السلاح، ولتنفيذ أعمال إرهابية ممنهجة ضد الممتلكات الفلسطينية من أراضٍ ومزروعات ومنازل.

ومع ذلك تضطرّ دولة الاحتلال في بعض الأحيان لإظهار عكس الصورة الحقيقية رغبةً في نفي التّهم الموجهة إليها من قبل جهاتٍ دولية بدعمها الجماعات الصهيونية الإرهابية أمثال “فتية التلال”، حتى إنّ الخطوات القانونية المتخذة ضد أفرادها كانت تصل إلى حدّ عزل بعض القيادات المتّهمة بالتنسيق مع “فتية التلال”، مثلما حدث مع المنسّق الأمني في الضفة الذي أقاله جيش الاحتلال في نهاية عام 2022، لكن تبقى هذه السياسات في إطارها الترويجي بعيداً عن التطبيق الميداني، كما هو موضحٌ أعلاه.

الختام:

وفي الختام؛ ثمّة ما يشير إلى أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وجدت في تنظيم “فتية التلال” ضالّتها، فيما يتعلق بمرونتها على مستوى الانتشار والفعالية ورفع الحرج عن السياسات الاستيطانية المتنوعة على المستوى الدولي، متنصّلةً من احتمال المساءلة القانونية من قبل الجهات الدولية، من خلال التذرّع بوجود صراع قومي متبادل ما بين الفلسطينيين والمستوطنين الموجودين في الضفة الغربية، وأن الأمور في بعض الأحيان تخرج عن سيطرة الأجهزة الأمنية وفق ادعائهم. لذا وجدت دولة الاحتلال في أفراد “فتية التلال” سلاحاً استراتيجياً فتاكاً تستطيع من خلاله تنفيذ كلّ المخططات الصهيونية الرامية إلى توسيع بقعة سيطرتها في الأراضي الفلسطينية، وبضمنها مخططات البؤر الاستيطانية المتفرقة في تلال ومرتفعات الضفة الغربية، والتي أُوكل جزءٌ كبيرٌ منها إلى أفراد هذا التنظيم في محاولةٍ واضحة للتغطية والتستّر على سياسات الضمّ الممنهجّة.

على الرغم من دعم الحكومة لتوجهات أفراد هذا التنظيم وتوفير الحماية اللازمة لهم ميدانياً، إلا أن تزايد أعمالهم الإرهابية المتطرفة التي اتخذت طوراً جديداً في الآونة الأخيرة، من تنظيم اعتداءات بالجملة على الفلسطينيين وممتلكاتهم كثيراً ما تضع الحكومة وقادتها في إحراجٍ على المستويين الدولي والإقليمي من جهة، وتتسبب في إشعال الوضع الميداني في الضفة من جهةٍ أخرى، وهو ما لا ترغب به في ظل تنامي التهديدات الأمنية الأخرى. الأمر الذي دفع بقيادات من الحكومة الحالية ذات التوجه اليميني المتطرف، في ظل زيادة التوتر الميداني الحاصل في الضفة الغربية، إلى التأكيد على ضرورة احتواء أفراد هذا التنظيم، وبالأخصّ إثر ما حدث في حوارة من اعتداءات ممنهجة طالت ممتلكات وأرواح الفلسطينيين متسبّبةً بردود فعل وتنديدات من جهاتٍ عدّة إقليمية ودولية.

وهناك آراء أخرى؛ دعت الحكومة إلى ضرورة احتواء أفراد تنظيم “فتية التلال” ودمجهم في وظائف حكومية رغبةً في تقييدهم ووضعهم تحت المراقبة منعاً لخروجهم عن السيطرة، لكن مع الحفاظ على تشجيعهم ودعمهم على مواصلة أنشطة الاستيطان الممنهج للسيطرة على التلال الجبلية، خاصةً في فترات توقف الأنشطة الاستيطانية الرسمية. ويشير ذلك إلى مدى تنبّه قادة الاحتلال إلى أهمية ما يقدمه “فتية التلال” على الرغم من قلة أعدادهم مقارنة بمجمل المستوطنين الموجودين في مستوطنات الضفة؛ فهم يوفّرون جهداً كبيراً على أجهزة الدولة العسكرية والجمعيات الاستيطانية فيما يتعلّق بملفّ الاستيطان.

ولكن بالنظر إلى سياسة الدولة بمختلف حكوماتها، فهي تتقاطع مع الإجراءات الإرهابية التي تقوم بها مجموعات “فتية التلال”، خاصةً فيما يتعلق بسياسة الاستيطان، فإذا أخذنا بعين الاعتبار الإجراءات الرسمية التي اتخذت في حينها من قبل قيادات الحكومات اليسارية ذاتها، فإنها تتشابك هي الأخرى بشكلٍ صريح من حيث الجوهر مع الرؤية الصهيونية لهذا التنظيم، لذا يمكن القول إن الإيديولوجية الدينية المتطرفة والوطنية تتقاطع ما بين الشباب المتطرف والعلماني، لكن يبقى الأول هو الأكثر ميلاً إلى الإيديولوجية الدينية، ولكن في تقاطعٍ مع الإيديولوجية القومية، فيما يبقى الاختلاف بينهما قائماً من حيث آلية العمل فقط، وهو ما يتبدّد مع الدعم الرسمي من قبل الحكومات المتتالية. 

وأما فيما يتعلق بإعلان الحكومات الإسرائيلية في بعض الأحيان وقف النشاط الاستيطاني الميداني، فتشير الكثير من التقارير العبرية إلى أن حجم الإمكانيات المقدم إلى أفراد التنظيم وتوفير الحماية اللازمة لهم يأتي في سياق رغبة الحكومة في الحفاظ على النشاط الميداني مستمراً من خلال إطلاق العنان لـ “فتية التلال” في السيطرة على التلال، خاصةً في فترات إيقاف النشاط الاستيطاني الرسمي، وذلك لقدرتهم على استئناف النشاط الميداني في ملفّ الاستيطان من خلال الأنشطة الرعوية في التلال والمرتفعات الجبلية دون وصايةٍ رسمية معلنة.

بناءً عليه؛ من المتوقع أن تستمر جهود الحكومات الإسرائيلية في تقديم كلّ أشكال الدعم إلى أفراد “فتية التلال” باعتبارهم سلاحاً هاماً وفتاكاً يوفر عليهم الكثير من الجهد والإمكانيات ويرفع عنهم الحرج والمساءلة القانونية الدولية التي يمكن أن تتعرض لها في حال استمرت في سياساتها الاستيطانية؛ نظراً لكونهم أفراداً ليس لديهم أي صلة رسمية بأجهزة الدولة الأمنية والعسكرية على الرغم من الدعم المقدّم من كليهما، ويمكن التنصل بكل سهولة من المسؤولية متذرعين بحجة خروجهم عن السيطرة. ولكنّها ستراعي في الوقت نفسه الحفاظ على وتيرة متوازنة من أنشطتهم والتحكّم في أعمالهم الإرهابية من حيث الزيادة والتراجع وفق التطورات الميدانية إن لزم الأمر كما وقع في حوارة.

وثمّة ما يدعو للقول؛ إن إجراءات حكومة الاحتلال الحالية جاءت مواتية لتوجهات تصفية القضية الفلسطينية والقضاء على أي حلولٍ تُفضي إلى إقامة كيانٍ فلسطينيّ مستقلّ، وهذا ما يفسر السياسات التعسفية المتمثلة بتكثيف الاستيطان المدعوم بالجماعات الإرهابية أمثال “فتية التلال”، وعمليات القتل الممنهج، لوأد أي محاولةٍ لإعادة تفعيل المقاومة المسلحة. وهو ما انعكس على الحالة الفلسطينية بشكلٍ ملحوظ؛ فلم يعد هناك أيّ بصيص أمل لدى الفلسطينيين لأي حلولٍ ممكنة للقضية الفلسطينية. وقد بدأت أصوات المكوّنات الشعبية والفصائلية تعلو داعيةً إلى ضرورة إعادة تفعيل المقاومة الشعبية بكلّ أشكالها وتوزيع أدورها لخلق وضعٍ جديدٍ يمكّن البيت الفلسطيني على المستويين الرسمي والحزبي من إعادة كينونته السياسية لتغيير الوضع القائم وفق تطلعات الشعب الفلسطيني وأولويات قضيته.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق