تقدير الموقف

إسرائيل .. ترميم الردع وعزل الساحات

تمّ إعداد هذه الورقة كـ “تقدير موقف أولي” في إطار سعي مجموعة الحوار إلى اصدار سلسلة تقديرات تحليلية حول الأحداث والتطورات الأخيرة المستجدة في فلسطين، والتي بدأت في صباحِ يوم الثلاثاء 9 مايو، إذ أقدمت دولة الاحتلال “إسرائيل” على جريمة اغتيال ثلاثة من القادة البارزين في سرايا القدس؛ مما أسفر عن ارتقاء حوالي 31 شهيداً حتّى اللحظة جلّهم من النساء والأطفال. ويسعى التحليل التالي لوضع تقدير حول الدلالات وأهمية توقيت هذه العملية العسكرية من زوايا مختلفة، إضافةً إلى البحث في أسباب ودوافع عملية الاغتيال، ومدى تأثير هذه العملية على التوترات الداخلية في الائتلاف الحكومي “الإسرائيلي”، وكذلك تقييم الأثر والسيناريوهات المحتملة القادمة.

تمهيد:

أقدمت دولة الاحتلال فجر الثلاثاء الموافق 9 مايو على اغتيال ثلاثة من أبرز قادة سرايا القدس الجناح المسلح لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ليرتقي على إثر الضربة الأولى إلى جانب الشهداء القادة نحو 15 شهيداً جلّهم من الأطفال والنساء، كما تزامنت عملية الاغتيال مع اقتحام قوات الاحتلال لمنطقتي نابلس وجنين بغرض تحييد مجموعات المقاومة المسلحة في الضفة وحرمانها من المشاركة في أي رد فعلٍ على الأحداث في قطاع غزة بما يجسّد مبدأ وحدة الساحات.

دلالات عملية الاغتيال وتوقيتها:

تأتي عملية الاغتيال للقادة الثلاثة، ولاحقاً لـ قائد الوحدة الصاروخية في سرايا القدس، كمحاولة اسرائيلية ترميم معادلة الردع الاسرائيلي التي تعرضت للتآكل في الشهور الأخيرة، خصوصاً بعد إصرار الشعب الفلسطيني على إحياء اعتكاف شهر رمضان المبارك في المسجد الأقصى رغم إجراءات المنع الاسرائيلية وما تبعها من قصف محدود من قطاع غزة ولبنان رداً على الاعتداء على المعتكفين، إضافةً إلى الرد الصاروخي من قطاع غزة على عملية اغتيال الأسير خضر عدنان، مما شكّل مادةً أساسيةً الإعلام الاسرائيلي للتشكيك في فعالية منظومة الردع الإسرائيلي التي بدأ يختل توازنها لصالح فصائل المقاومة في قطاع غزة، خصوصاً منذ معركة سيف القدس “وحدة الساحات” في العام 2021، ومروراً بالأحداث سابقة الذكر في الأشهر القليلة الماضية.

اتصالاً مع النقطة السابقة، تعرض الائتلاف الحكومي بقيادة نتنياهو لخطر التفكك بعد اعلان بن غفير أثناء زيارته لمستوطنة “سديروت” التي تعرضت للأضرار بفعل صواريخ المقاومة عن نيته ونواب حزبه عدم التصويت على قرارات وقوانين الحكومة حتى تصبح حكومة يمينية حقيقية، وتنفّذ ما ورد من تفاهمات مع نتنياهو حول تنفيذ عملية عسكرية ضد قطاع غزة والعودة إلى سياسة الاغتيالات، في ضوء ما ما يقال عن انحسار خيارات الحكومات المتعاقبة في التعامل مع التهديدات الفلسطينية وخصوصاً القادمة قطاع غزة.

أما بالنسبة إلى توقيت عملية الاغتيال، فيأتي قبل نحو عشرة أيام من مسيرة الأعلام الاسرائيلية السنوية، لذا يرغب نتنياهو في إنهاء هذه الجولة من القتال قبل مسيرة الأعلام دون تدخلٍ من المقاومة في القطاع من شأنه أن يعيق تنفيذ المسيرة والاحتفالات المصاحبة لها في ذكرى التأسيس، إلى جانب تسجيل نقاط انتصارٍ وصيانة منظومة الردع باغتيال الشهداء القادة. وعلى عكس ذلك؛ تشير بعد التقديرات بأن إطالة توقيت جولة الصراع سيزيد من حالة احتقان الجبهة الداخلية مما قد يفاقم من الضغوط على استمرار الائتلاف اليميني الحكومي الإسرائيلي مع تصاعد حدّة خلافات المعلنة بين أركان التحالف الحكومي الصهيوني. خاصةً وأن كل من ابن غفير وسموتيرتش كانوا قد هددوا بالتخلي عن دعم نتنياهو، وهو ما دفع الأخير إلى عقد صفقة ضمنية معهم تقوم على إعادة سياسة الاغتيالات مقابل الحصول على دعمهم لحكومته وذلك تنفيذاً لتفاهماتٍ سابقة بينهم.

على الرغم من أن الدافع الأساسي لهذا العدوان ينطلق من رغبة حكومة الاحتلال الاسرائيلية ترميم الردع وصيانة صورة الجيش الاسرائيلي في وعي مجتمعه، والحفاظ على الائتلاف الحكومي القائم، لكننا لا يمكننا استبعاد أن جزءاً من أهداف قرار العدوان وتوقيته له صلة بعوامل إقليمية ودولية تراه حكومة الاحتلال مواتية لانتزاع انجاز سياسي وميداني على حساب الفلسطينيين بما يعزز الاعتقاد لدى قيادة الكيان بأن من شأن ذلك أن يعزز أمن الكيان ويضمن مستقبله في ذكرى ما يسمّى يوم الاستقلال، إلا أن الساعات اللاحقة لعملية الاغتيال، وإرجاء المقاومة في قطاع غزة ردها لما يزيد عن 24 ساعة تركت القيادة الاسرائيلية ومجتمعها في حالة شك وأظهر حالة القلق من صمت المقاومة والترقب الحذر ل ردودها المتوقعة، كما أثارت عمليات الإخلاء لمستوطني الغلاف، ومنع التجمعات الكبرى وتعطيل المؤسسات العامة إلى التشكيك في فعالية عملية الاغتيال في ردع المقاومة في قطاع غزة.

يشير تأخر رد المقاومة لما يزيد عن 24 ساعة على عملية الاغتيال والانضباط الميداني العالي لكافة عناصرها وتشكيلاتها، ثم تصدير بياناتها وفواصل الاعلان عن تنفيذ عمليات القصف الصاروخي باسم الغرفة المشتركة للمقاومة دليل على انخراط المقاومة بكافة تشكيلاتها، وخصوصاً كتائب القسام، في ادارة هذه الجولة وتحكم الغرفة المشتركة بتطورات المشهد الميداني، إذ على الرغم من إطلاق نحو 900 صاروخ من القطاع حتى اللحظة ( 12 مايو) إلا أن قدرتها التدميرية ومديات الصواريخ، ثم البيان الصادر عن الغرفة المشتركة الذي أطلق اسم ”ثأر الأحرار“ على عملية الرد واعلان جهوزيتها لمواصلة الضربات في حال واصل الاحتلال اعتداءاته، كل ذلك يشير إلى رغبة قيادة المقاومة في القطاع إلى وضع المواجهة ضمن إطار الحفاظ على قواعد الاشتباك السابقة مع الاحتلال ومنعه من صيانة ردعه على حساب قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية، دون الرغبة في تصعيد المواجهة وتطويرها في إلى مستويات شاملة وأيام طويلة. وهو ما يفسّر تفادي ظهور الجناح العسكري لحركة حماس في صورة هذه المواجهة إلى إشعار آخر بهدف تقليص التكلفة المترتبة على هذه المواجهة خصوصاً تجاه البني التحتية في قطاع غزة والحفاظ على أرواح المدنيين الفلسطينيين العزّل.

في الوقت الذي تغيب فيه المؤشرات الدالة على رغبة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة -حتى اللحظة-في توسيع نطاق هجماتها وتصعيد فعلها ضد الاحتلال منعاً للانخراط في مواجهة كبرى تختار “اسرائيل” توقيتها وفق جاهزيتها ومناسبة الأوضاع الاقليمية لها، قد يدفع السلوك الاجرامي لقادة الاحتلال تواصل القصف على القطاع وايقاع خسائر في المدنيين والتصعيد في الضفة الغربية ومواصلة حكومة نتنياهو خططها القاضية باقتحام الأحياء الاسلامية والمسجد الاقصى بالمستوطنين عن طريق ما يسمّى “مسيرة الأعلام” كل ذلك من الممكن أن يدفع  بقوى المقاومة إلى تبنى مقاربة أكثر حدة وتصعيد ردودها من خلال أدوات وساحات متنوعة.

بينما تظل المقاومة حريصة على عدم تصعيد نطاق الصراع، لا يبدو أن حكومة الاحتلال تشاركها نفس الحذر ذاته، وهو ما يتضح من تعنتها في المفاوضات حول وقف إطلاق النار وتعطيلها لجهود الوسطاء للتوصل إلى اتفاق تهدئة جديد. غير أنه يلاحظ محاولة الاحتلال تجنب الإشارة إلى حركة حماس في هذا الصراع حتّى اللحظة – بدأت تظهر مؤشرات على تغير على هذا الوضع – في محاولة لتقديم صورة كأن النزاع مقتصر على الجهاد الإسلامي فقط. ولكن يبقى السؤال المركزي الذي يلقي بظلاله على الجميع: “إلى أي سيناريو قد تتجه الأوضاع الحالية؟”:

1-السيناريو الشامل للتصعيد:

تشير هذه الفرضية إلى أن تصعيد الهجمات “الإسرائيلية” وتوسعها لتشمل المباني السكنية والمرافق قد يدفع حماس إلى التصعيد بشكل واضح وملموس تحت ضغط الرأي العام، في محاولة للحفاظ على التوازن الاستراتيجي ومنع نتنياهو من تحقيق نصر على حساب قطاع غزة.

أ-متطلبات هذا السيناريو:

  • عدم القدرة على التوصل إلى اتفاق تهدئة، أو عجز الوسطاء عن إقناع المقاومة بالقبول بما تسعى إليه القوات الإسرائيلية، خاصة وأن الأخيرة ترفض التنازل عن سياسة الاغتيالات أو تسليم جثمان الشهيد خضر عدنان.
  • قدرة الجهاد الإسلامي على استمرار شن الهجمات، خاصة تلك التي تستهدف المناطق العمق الاسرائيلي والبعيدة عن غلاف عن قطاع غزة، والتي تضع نتنياهو في موقف محرج وتدفعه لارتكاب المزيد من الأعمال العنيفة ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
  • التصميم من قبل الأطراف المتنازعة على الدخول في مرحلة الصراع القوي، حيث يحاول كل طرف فرض إرادته على الآخر.

ب. احتمالية هذا السيناريو:

في ضوء الاعتبارات السابقة، يبدو أن هذا السيناريو يحمل وزناً أعلي من السيناريو المحدود للتصعيد، حيث يستمر الجانب الإسرائيلي في تعنّته في المواقف ، ويشن هجمات على قادة الجهاد الإسلامي بدلاً من التوقف بعد هجوم واحد.

سيناريو التصعيد المحدود:

يشير سير التطورات الحالي إلى سيناريو التصعيد المحدود في الوقت والمكان، حيث تسعى الأطراف إلى الحفاظ بشكل نسبي على هذا السيناريو، في حين يحاول كل طرف استغلال الظروف الميدانية للضغط على الآخر الرضوخ لشروطه باستخدام الزمن والهجمات الفعّالة.

أ. متطلبات هذا السيناريو:

هذا السيناريو لا يتطلب شروطًا خاصة لدعمه، حيث تشير الأحداث الميدانية الحالية إليه بوضوح. يمكن وصف الوضع الراهن بأنه “صراع الإرادات”، حيث يسعى كل طرف للخروج من النزاع بتحقيق الشروط التي تخدم مصالحه بغض النظر عن مصالح الطرف الآخر.

ب. احتمالية هذا السيناريو:

هذا السيناريو يحمل وزنًا أقلّ من السيناريو الأول من حيث فرص تحققه، بالرغم من حرص المقاومة على تفادي المواجهة الشاملة والمؤشرات المذكورة أعلاه. حيث أن المقاومة في غزة قد واجهت عدة جولات مماثلة مؤخرًا. فالحرب المفتوحة ليست الهدف، خاصة بعد أن خرج قطاع غزة من حرب مفتوحة قبل حوالي عامين. كما يحتمل بعوامل الضغط الداخلي وقدرة المقاومة على مفاجأة الجبهة الداخلية الاسرائيلية ربما تدفع الاحتلال إلى تفضيل هذا الاتجاه أيضاً، ولا يرغب في دفع أي تكاليف سياسية، والاستمرار على الاعتماد على الاغتيالات باب مفتوح للضغط على قرار المقاومة.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق