مقالاتمقالات رأي

“الحياد الفلسطيني” و”استقلالية القرار” .. وجبروت الواقع!

تالياً بعض التأمّلات في السؤال المطروح من قِبل “مجموعة الحوار الفلسطيني” حول أهمّية وضرورة “الحياد السياسي” و”استقلالية القرار” فلسطينياً (وغالباً على خلفية ما حدث ويحدث في الإقليم من صراعات وتوترات). كلاهما، (الحياد والاستقلالية)، ضرورتان مُلحّتان على المستوى القيادي، ولهما أيضاً انعكاسات وامتدادات حزبية وشعبية وإعلامية. هذه التأمّلات تهدف إلى تعميق النقاش وطرح زوايا إضافية ولا تقدّم إجابات كاملة، والتساؤل الأهمّ الذي تطرحه يدور حول صلاحية وعملية السؤال نفسه، بمعنى هل يمكن فعلاً الحديث عن “الحياد” و”الاستقلالية” التامّين لحركة تحرّر وطني تحتاج إلى دعم الآخرين بشكل متواصل، وتفتقر لأوراق القوة التي توفر لها إمكانية “الحياد” وتساعدها على فرض “استقلالية القرار”؟ وإلى أيّ مدى قد يؤثر تبنّي “الحياد” على تآكل الموقف أو المواقف الأصلية لحركة التحرر الوطني الفلسطيني. الإشارات الواردة أدناه لبعض الشواهد والوقائع التاريخية هدفها طرح أمثلة للمساعدة في التأمّل، وليست بأيّ حالٍ من الأحوال جزءاً من سردٍ متكامل يزعم تقديم مطالعة تاريخية تتضمّن كلّ المحطّات الأساسية التي شهدها مسار الحركة الوطنية الفلسطينية.

ابتداءً، ليس ثمة أكثر جاذبية من فكرة الالتزام بـ “الحياد السياسي” والحفاظ على “استقلالية القرار” كآلية دفاعية يحتمي بها الطرف الاضعف عندما تعصف حوله صراعاتٌ وتنافسات، يكون أطرافها الأساسيون أكثر قوّةً وجبروتاً، ويفرضون على الأطراف الأضعف اصطفافات سياسية أو إيديولوجية. ينطبق هذا الانجذاب النظري نحو الحياد السياسي، ومعه الاستعصاء التطبيقي، على الفلسطينيين قضية وشعباً وقيادة منذ مرحلة الاستعمار البريطاني، حتى الآن. المراحل المتلاحقة خلال قرن من التاريخ الفلسطيني الحديث ونضالاته وإخفاقاته كشفت الفجوة بين جاذبية الفكرة وصعوبة التطبيق. في كل تلك المراحل لم يكن بالإمكان، ولم يكن المطلوب بأي حال، فصل النضال الفلسطيني عن محيطه العربي، بنضالاته ودعمه، بسياساته وإيديولوجياته، وبأنظمته وإكراهاته. وبسبب العلاقة العضوية مع المحيط العربي، التي كان جوهرها يؤكّد أنّ فلسطين هي قضية العرب المركزية، فإن خيارات الفلسطينيين عملياً دفعت بهم للانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك، تبعاً للموقف من فلسطين، وأوقعتهم بالتالي تحت ضغط جبروت قوى عديدة استنزفت استقلالية قراراتهم، كنوعٍ من المقايضة الخفيّة التي كانت تتمّ وفق معادلة “الدعم مقابل التبعية”: دعمُنا لكم ولفلسطين، مقابل تبعيتكم لنا.

وهكذا فإن أيّ نقاش حقيقي حول الشدّ والجذب بين مثالية الحياد السياسي ومعه استقلالية القرار، وصعوبة الالتزام العملي بهما، يفرض علينا تحليل السياقات السياسية والتاريخية للتجربة المريرة الماضية، وفحص تأثير واشتغال عناصر عديدة، منها ما هو سياسي وإيديولوجي، تحكّمت في دينامية الشدّ والجذب تلك، ومنها ما هو تكويني وأوّلي له علاقة بتعريف فلسطين كوطن محتل، وقيادته السياسية كممثل لحركة تحرير وطني تحتاج إلى إسناد إقليمي. ينضاف إلى عناصر السياسة والإيديولوجيا والتكوين التعريفي لفلسطين وقضيتها، مسارٌ زمنيّ وتاريخي مركّب ومتقلّب تشتغل فيه هذه العناصر جميعاً، تمتاز فيه كل حقبة زمنية، سواءٌ فلسطينياً أم إقليمياً أم دولياً، عن غيرها، بما يفرض استجابات فلسطينية مختلفة قد تساعد أحياناً على تبنّي منهج الحياد، أو تُعقّد في أحايين أكثر إمكانيات تطبيقه. عند تحليل اشتغال العناصر المؤثرة في مسار الفلسطينيين في كلّ مرحلة تاريخية وفحص “حيادية” السياسة والقيادة الفلسطينية، ربما نصل إلى نتيجة تُثير شكوكاً حول أيّ فرضية خلفية لهذا النقاش تقول بأن الحيادية والاستقلالية تسيّدا بوصلة السياسة الفلسطينية فترات طويلة، وأنهما كانا منهج القيادة، أو القيادات الفلسطينية، بما وفّر على الشعب الفلسطيني كُلَفاً باهظة. ربما كان عكس ذلك تماماً هو ما سيطر على الشطر الأعرض من السياسة والكفاح الفلسطيني في القرن الماضي، أي الانحياز وعدم الاستقلالية.

العنصر الأول الذي يجب التأمل فيه، لفحص قرب السياسات والقيادات الفلسطينية أو بعدها عن الحياد السياسي واستقلال القرار، عنصرٌ تكوينيّ وتعريفي، ومرتبط بجوهر قضية فلسطين وكونها قضية استعمار استيطاني، إحلاليّ، مدعوم من قبل القوى العظمى في كل المراحل التي عبرها هذا الاستعمار. هذا التعريف التكويني والأولي لفلسطين وقضيتها، والذي ما زال قائماً ومؤثراً، وضع الفلسطينيين، وبكلّ انحياز وبعيداً عن كل حياد، في صف القوى والسياسات والإيديولوجيات التي دعمت حقّهم في التحرير والمقاومة منذ حقبة الاحتلال البريطاني. لم يكن بإمكانهم اختيار الحياد لا إقليمياً ولا دولياً في أي ظرف تتصادم فيه القوى التي تدعم المشروع الصهيوني وإسرائيل مع القوى التي تدعمهم. ورغم أنّ هذا يبدو بدهياً، إلا أنّ له أوجهاً بالغة التعقيد خاصة في مراحل زمنية، مثل حقبة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كانت فيها القوى الداعمة لإسرائيل أحد طرفي الاستقطاب الغربي – السوفياتي (وكما هو الحال راهناً في حقبة التطبيع “الإبراهيمي” الراهنة).  انعكس ذلك الاستقطاب العالمي على المنطقة، وانقسمت خلاله الدول العربية إلى معسكرين: “تقدُّمي”، و”رجعي”. لم يكن بإمكان الفلسطينيين الوقوف على “الحياد السياسي” إزاء استقطابٍ كهذا، وترتّب عليهم اختيار المعسكر التقدمي والاقتراب من الدول والأنظمة الممثلة له، (من دون القطع مع المعسكر الآخر).

تكوينياً وسياسياً أيضاً، وفي حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، مثلاً، نشأت حركة القوميين العرب في المشرق، التي أسّسها وقادها رموزٌ فلسطينية، مثل جورج حبش ووديع حداد، في ظلّ صعود القومية العربية والناصرية وشعاراتها المنادية بالوحدة العربية والمناهضة للإمبريالية. في ذلك السياق وما تلاه في الستينيات حين تأسست حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، التحقت الحركات الفلسطينية وقياداتها بـ “المعسكر التقدمي” بشكلٍ أو بآخر. ثم في العقد اللاحق، انخرط الفلسطينيون عسكرياً ضد أطراف اعتبروها من المعسكر الآخر (صدامات أيلول ١٩٧٠ في الأردن، والحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينيات). في حالات أخرى دعموا منظمات وحركات اعتبرت تقدمية في صراعها ضد “الأنظمة الرجعية”، كما في العلاقات مع جبهة تحرير ظفار والخليج العربي في الستينيات، والأحزاب الإيرانية المعارضة للشاه في السبعينيات، وكذلك دعم حركة البوليساريو اليسارية في الصحراء الغربية ولو في حدود سياسية وإعلامية دنيا أقل. وهكذا انعكس الفهم التكويني والتعريفي الأولي لفلسطين وقضيتها على مواقف الفلسطينيين وتموضعهم، ورؤيتهم لأنفسهم ولقضيتهم التحررية كجزء من سياق عالمي أوسع مناهض للاستعمار وللإمبريالية و”الأنظمة الرجعية” الحليفة لها. كانت الرؤية السائدة، والتعريف الذاتي، يقومان على أنّ حركة التحرر الوطني الفلسطيني جزء من حركات التحرر التي تناضل من أجل حقّ تقرير المصير في العالم بأسره، وكان لهذا كلّه حمولاتٌ انحيازية واسعة التأثير، منها ما هو إقليمي وعربي مباشر وقريب، وأحياناً ذات كُلَف عالية.

الإيديولوجيا هي عنصرٌ آخر ووجه إضافي لعلاقات السياسة، وملتصق أيضاً بعنصر التعريف التكويني لفلسطين كمشروع تحرر ومقاومة ضد الاستعمار. فقد شهدت حقب سيادة إيديولوجيا القومية العربية والإيديولوجيات اليسارية التي تبنّت خطاب الوحدة العربية والاشتراكية وتحرير فلسطين، اندراج الفكر والممارسة الفلسطينية في المسار الإيديولوجي ذاته والانحياز له. لم يكن “الحياد السياسي” ممكناً من ناحية عملية بين إيديولوجيات تعتبر تحرير فلسطين، ولو لفظياً، مكوناً من برنامجها الفكري والنظري، وتوجهات إقليمية أخرى يخلو خطابها وممارساتها من “المكوّن الفلسطيني”. في مراحل لاحقة وعندما صعدت إيديولوجيا الإسلام الحركي ورفعت شعارات المقاومة والتحرير، انحازت لها وتماهت معها حركاتٌ وشرائح فلسطينية كبيرة، على قاعدة مركزية المكون الفلسطيني في هذه الإيديولوجيا (ومرّةً أخرى حتى لو كانت الفجوة بين التبنّي اللفظي والتطبيق العملي على الأرض كبيرة). على هذا فإن تلاحق سيطرة إيديولوجيات مؤثّرة وعابرة للحدود صعّب عملياً تنزيل مثالية “الحياد السياسي” المُفترض على الأرض. في بعض الحالات يزداد تركيب المسألة وتعقيدها، خاصّةً عندما تتصارع الإيديولوجيات التي تحمل الشعارات نفسها المؤيدة لفلسطين، والعداء لإسرائيل والدعوة للتحرير، كما حصل في الصراع المرير بين العراق وإيران بعد سقوط الشاه، فقد حمل الطرفان شعارات التأييد لفلسطين والفلسطينيين. آنذاك لم تستطع القيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير، التي رحبت بالثورة الإسلامية في إيران واعتبرتها انتصاراً إقليمياً مدوّياً لفلسطين، أن تحافظ على الحياد السياسي التامّ. ويمكن القول إنّ تقدير المصلحة الفلسطينية في ذلك الوقت أخذ بالاعتبار العديد من العناصر الضاغطة والتي مصدرها دول الخليج حيث الدعم المالي للمنظمة ووجود الكثير من الفلسطينيين، بما يطرح تساؤلات حول تأثير تلك العناصر على استقلالية القرار ولو بشكل غير مباشر. 

يظل عنصر السياسة المتحوّلة وإكراهاتها، هو الأكثر حسماً في الموقف، حياداً أم انحيازاً، استقلالاً أم تبعية. مثلاً، نتج عن اتفاقيات كامب ديفيد في أواخر سبعينيات القرن الماضي بين مصر وإسرائيل صدمة هائلة في المشهد السياسي العربي والفلسطيني، وتأسّس إثرها تكتّل “جبهة الصمود والتصدي”، التي ضمّت العراق وليبيا وسورية والجزائر واليمن الجنوبي. وبالطبع وجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها أقرب إلى هذا التكتل. لم تستطع المنظمة ممارسة ترف تبنّي منهج “الحياد السياسي”، الذي يفترض الحفاظ على مسافة متساوية بين هذا التكتّل من جهة، وبقية الدول العربية، المحافظة، التي لم تتخذ الموقف ذاته الحادّ والرافض لكامب ديفيد، من جهة أخرى. عملياً لم يكن في مقدور المنظمة أن تتخلّف في موقفها عن دول كتلة “جبهة الصمود والتصدي”، لأن الحياد هنا سوف يكون على حساب الموقف الفلسطيني نفسه من إسرائيل.

في حالاتٍ أخرى، مثل الحرب الأهلية في لبنان في منتصف سبعينيات القرن الماضي أيضاً، واجهت المنظمة خيارات شبه مستحيلة اختصرت بين الاصطفاف إلى جانب الحركة الوطنية اللبنانية ضد المعسكر الانعزالي، المؤيد من قبل إسرائيل، أو التزام الحياد في معركة بدت للفلسطينيين آنذاك مصيرية. مرّة أخرى، توحّدت عناصر فهم الفلسطينيين لذاتهم التحررية، وسيادة الإيديولوجيات القومية واليسارية، مع الاعتبارات السياسية الراهنة، فحسمت الخيارات، ووجد الفلسطينيون أنفسهم في موقع مُنحاز تفرضه معطيات الأمر الواقع أكثر من أيّ مسائل تنظيرية أو مثالية.

في الحرب الأمريكية الأولى على العراق، بعد غزوه الكويت، واجه الفلسطينيون اختياراً آخر بالغ الصعوبة. من ناحية وجب عليهم أن يكونوا ضد احتلال الكويت انسجاماً مع تعريفهم لفلسطين كوطن يقع تحت الاحتلال، ومن ناحية ثانية وجدوا أنفسهم في الموقع المعادي لتجمّع نصف مليون جندي أمريكي في المنطقة بهدف ضرب العراق. زاد الخيارَ صعوبةً أنّ العراق، المؤيّد الدائم والقوي لفلسطين والذي ضرب تل أبيب بالصواريخ، هو البلد المُستهدف. كثيرون انتقدوا، من موقع التقييم الاسترجاعي بعد مرور سنوات طويلة على الحدث، موقف المنظمة وقيادتها وانحيازها للعراق، وهو نقد مستحق، لكن في سخونة اللحظة آنذاك لم تتمكن المنظمة من إيجاد نقطة توازن معقولة تمثل “الحياد السياسي” ويقبل بها طرفا الصراع.

النقطة التي أختم بها هذه التأمّلات العجلى هي التالية: إلى أيّ مدى قد يتسبّب “الحياد السياسي”، في صورته المثالية، في تآكل الموقف الوطني في شكله الأوّلي والتكويني التحرّري النقي؟ ولترجمة هذا السؤال عملياً، لنتأمّل اتفاقيات التطبيع الأخيرة، الإماراتية والبحرينية والسودانية والمغربية، مع إسرائيل، من منظور “الحياد السياسي” وأين يمكن موضعة الموقف الفلسطيني الأفضل؟ إدانة هذه الاتفاقيات بشدّة والوقوف بصلابة ضدها، انسجاماً مع الموقف التحرّري الفلسطيني الأصلي سوف يؤدي إلى خسارات سياسية ودبلوماسية كبيرة، وربما شعبية أيضاً في تلك الدول، بسبب سطوة الإعلام. في المقابل، فإن الموقف الذي يتبنّى “حمل العصا من الوسط”، أي الإدانة الخجولة التي “لا تقبل” ما حصل، لكنها “تتفهم اعتبارات الدول وقراراتها السيادية” يؤدي على المدى المتوسط والطويل إلى تآكل تدريجي في الموقف الوطني الأصلي من فلسطين، ويساهم في “تطبيع” المواقف التي تزداد تنازلية من قبل الأنظمة العربية وغيرها. تاريخياً، يمكن الزعم أن الموقف من اتفاقيات كامب ديفيد، خاصّةً بعد مقتل السادات، ومن زاوية “الحياد” و”الاستقلالية” في السياسة الفلسطينية، يشكل أحد أهمّ المداخل لفهم تأثير “الحياد” او “الانحياز” على صمود الموقف الفلسطيني من قضايا مختلفة، أو تآكله. ويُشار هنا إلى بداية ذلك التآكل عندما قرّر ياسر عرفات التوجّه إلى مصر (كامب ديفيد) بعد خروجه من لبنان سرّاً، في أعقاب معارك المخيمات وحصار طرابلس (من قبل السوريين) سنة 1983. وهكذا، فإن العلاقة بين “الحياد السياسي” إزاء الصراعات والتحولات الحادة، وتآكل الموقف الوطني التكويني والتأسيسي التحرري، هي من أهمّ المسائل التي يجب أنْ تقع في قلب هذا النقاش المهمّ.

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء مجموعة الحوار الفلسطيني.

الوسوم
اظهر المزيد

د. خالد الحروب

كاتب واكاديمي فلسطيني، استاذ دراسات الشرق الاوسط في جامعة نورثويسترن في الدوحة، قطر. أسس وادار مشروع الاعلام العربي في جامعة كامبردج لعدة سنوات، الى جانب تدريسه تاريخ وسياسة الشرق الاوسط. له العديد من الكتب والدراسات بعضها ترجم الى عدة لغات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق