مقالات رأي

عين الحلوة بين المخاطر الأمنية والتحديات السياسية

أفضى التشظّى الفلسطيني الناتج عن النكبة إلى انشغال فلسطيني بالوحدة الوطنية، وهو ما طبع الحركة الوطنية الفلسطينية، بتياراتها المتعددة، بطابعه. وتقدم هاجس وحدة الفلسطينيين في وعي نخبه السياسية، وكذلك استقرّ في الوجدان الشعبي ضرورة تحجيم التداخلات الخارجية وصيانة القرار الوطني المستقل.

ونجد عبر التجربة الفلسطينية اعادة انتاج وعي هذا الحامل التاريخي يعود لينضج مع صعود كل قوى فلسطينية مستقلة بقرارها، وإن قدمت سواه في مراحلها الأولى، تحديدا إن وصلت إلى حيث باتت مسؤولة عن الشعب الفلسطيني، مباشرة، و/أو وعت أن سياستها توحد الفلسطينيين أو تفرقهم، فقدمت مصلحتهم على مصلحتها الفئوية.

ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد أن هذا التفكير الناضج لدى أقطاب العمل الفلسطيني أنتج آليات عمل جماعي لدى الحركة الوطنية الفلسطينية للتصدي لأي خروقات يمكن ان تلعب أدوار سلبية في المشروع الوطني الفلسطيني سواء على صعيد وحدته وهويته السياسية.

 في أحداث عين الحلوة الأخيرة تكثفت هذه المعاني لدى القوى والفصائل الفلسطينية وجرى استدعاء هذه القيم السياسية كما بدا في  السلوك المسؤول لدى قطبي السياسة الفلسطينية حركتي فتح وحماس ضمن مستويات قيادية بعينها، حيث طغت مفاهيم التكاتف والتعاون على اي خلافات في ظل استشعارهما بالمسؤولية إزاء الأخطار المحدقة بالفلسطينيين ووجودهم في مخيمات اللجوء في لبنان حيث محاولات الإخلال بمعادلة أمن المخيمات تتواصل من أطراف عدّة كل منها لأسبابه الخاصة ولكنها جميعها تقود إلى أضعاف جبهة الفلسطينيين في صراعهم المرير ضد الاحتلال وجهوده في ضرب تماسك الفلسطينيين وقدرتهم على الصمود وأفشال مخططاته الهادفة إلى تصفية الملفات الأساسية في المقدّمة منها حق العودة الذي يمثل الركيزة الأساسية التي تستند عليه الهوية الوطنية في الشتات، اتضحت التداعيات السلبية لمثل هذه التداخلات الخارجية في هشاشة الوضع الأمني والضغط السياسي على المرجعيات الفلسطينية  وكذلك توقف خدمات الانروا بحجة تدهور الاوضاع الأمنية ما يفتح الباب أمام احتمالات غير مرغوبة فلسطينياً ولها تداعياتها السلبية علي التوازن السياسي والأمني المتأرجح في لبنان.

تعيش مخيمات اللجوء الفلسطينية في لبنان أزمات معيشية مزمنة ومُركبة يصاحبها غياب واضح للحقوق القانونية والاجتماعية، ويُضاف اليها موجات من الاقتتال الداخلي المفتعل والذي لا يخدم إلا أهداف الاحتلال وأطراف أخرى لها مصالحها المكملة لأهداف الاحتلال الإسرائيلي.

ولا تمثل أحداث مخيم عبن الحلوة المأساوية التي اندلعت في 29 يوليو 2023 والتي راح ضحيتها نحو 14 شخصاً وإصابة 60 أخرين، إضافة إلى دمار وخراب في الممتلكات العامة والخاصة، استثناءً عن أحداث مشابهة شهدتها مخيمات فلسطينية أخرى، ولا سيما أحداث نهر البارد وغيرها من الاحداث المأساوية التي لا تتوقف عن مطاردة قضية اللاجئين وتدفع أصحابها ثمن تمسكهم بها والدفاع عنها.

المؤسف أن التنوع الفصائلي في مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان دائماً ما يُستخدم كـ وقود لإشعال الفتن وضرب النسيج الاجتماعي وترويع الامنين، وهو ما يُعطي الفرصة الى العديد من الأطراف التي تستهدف حقوق اللاجئين وتضعهم في خانة الإرهاب، لذلك حينما تتصدر أحداث عين الحلوة الميديا يُقال أن الاحداث والاشتباكات تدور بين حركة فتح وأطراف أخرى أو جماعات محسوبة على الإسلاميين أو المتطرفين، ولعل ما يساعد على ذلك هو انجرار بعض الفصائل الفلسطينية خلف تلك الاستفزازات وعدم الاحتكام الى مرجعياتها إلا بعد فوات الأوان.

ولعل المتتبع لسير أحداث عين الحلوة يلاحظ أنها أشبه بقضايا الثأر التي سرعان ما تتحول إلى صراعات فصائلية، لأن مجموعة الإسلاميين الذين تعرضوا لإطلاق نار من محمد زبيدات المحسوب على حركة فتح كانوا بمثابة الشرارة التي أشعلت المخيم وترتب عليها اغتيال اللواء أبو أشرف العرموشي قائد الأمن الوطني في صيدا والمحسوب على حركة فتح وأربعة من مرافقيه، وهو ما دفع حركة فتح الى محاولة الأخذ بثأر العرموشي دون الرجوع الى هيئة العمل المشترك التي تضم جميع الفصائل الفلسطينية في لبنان، وهو ما يهدد حياة أهالي واحداً من أهم مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان ويضعها تحت التهديد.

مصلحة الأطراف الخارجية

مع اشتعال الاحداث في عين الحلوة ربطت الكثير من المصادر الإعلامية بين تلك الاحداث وزيارة رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية في رام الله السيد ماجد فرج إلى لبنان، وقد سربت مصادر قيادية فلسطينية مطالب فرج مع الجيش اللبناني، حيث تركزت على جهود حركتي حماس والجهاد الإسلامي الداعمة للمقاومة في الضفة الغربية من الأراضي اللبنانية، وهو ما يشكل تهديداً للأمن القومي للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، لهذا طلب فرج من السلطات اللبنانية وقف هذه النشاطات، ووفقاً لتلك المصادر أن الجانب اللبناني نفى علمه بأنشطة حماس والجهاد الداعمة للمقاومة في الضفة الغربية، لكن فرج ابدى استعداده لتزويد الجانب اللبناني بمعلومات تثبت هذه الأنشطة.

في السياق ذاته أكدت مصادر قيادية فلسطينية مطلعه أن مطلب فرج الثاني تركز على بعض الصواريخ التي تطلقها الفصائل الفلسطينية من الأراضي اللبنانية تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتي تضر بالأمن اللبناني، عارضاً تقديم المساعدة في تقديم المعلومات الأمنية للجانب اللبناني.

كما طلب فرج من الجانب اللبناني استلام الأمن الوطني الفلسطيني لأمن المخيمات الفلسطينية في لبنان، وهذا ما فسرته العديد من وسائل الإعلام في إطار التنافس الحاصل بين الفصائل الفلسطينية في المخيمات، ومحاولة حركة فتح استعادة قوتها مقابل تنامي الفصائل الأخرى، لاسيما حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وهو ما نفته مصادر فلسطينية تابعة للسلطة الفلسطينية، مستبعدة علاقة زيارة ماجد فرج بأحداث عين الحلوة، لأن الجانب اللبناني هو من وجه الدعوة لرئيس جهاز المخابرات الفلسطينية كما أوضحت تلك المصادر. لكن بدء حركة فتح بالهجوم أعطى نوعاً من الوجاهة لتلك الاتهامات، خاصةً وأن سخونة الاحداث عادةً ما تفتح المجال أمام الاتهامات والاتهامات المضادة.

في سياق متصل ربطت أطراف إعلامية فلسطينية بين أحداث عين الحلوة وذلك التصعيد الجاري والمتجدد في جنين ونابلس، حيث اعتبرت تلك الأصوات أن ثمة محاولات إقليمية لنقل موجة التصعيد الجارية في الضفة الغربية إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان، لأن السلطة الفلسطينية باتت عاجزة عن السيطرة الأمنية، بينما تسعى حكومة اليمين الديني في إسرائيل إلى التخلص من تنامي قدرات المقاومة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية، وملاحقة أنشطة المقاومة خارج الأراضي الفلسطينية.

وبغض النظر عن صحة تلك الروايات من عدمها، فإن زج المجموعات المتطرفة في مخيم عين الحلوة ومخيمات أخرى ـكـ وسيلة لافتعال المشاكل تحت عنوان مكافحة الإرهاب، تبقى حقيقة قائمة، إذ تسعى العديد من الأطراف المحلية والإقليمية الى زج الجيش اللبناني في المعارك، للحصول على تأييد الجهات الخارجية، خصوصاً وأن عنوان مكافحة الإرهاب هو عنوان جذاب يشارك فيه الجميع.

جهود إعادة الهدوء إلى عين الحلوة

حققت الجهود المحلية اللبنانية والفصائل الفلسطينية نجاحاً مهماً على طريق إستعادة الهدوء، وبعد اجتماع الهيئة العمل الفلسطينية اللبنانية المشتركة ووفقاً لمصدر قيادي فلسطيني ان إخفاق الأمن الوطني الفلسطيني الذي تقوده حركة فتح في استعادة السيطرة الأمنية على حساب المجموعات المتطرفة قاد الأوضاع إلى وقف إطلاق نار هشّ، ويضيف المصدر عدد من الفصائل الفلسطينية بما فيها حركة حماس، مارسوا ضغطاً كبيراً على المجموعات المتطرفة بهدف الحد من توسيع دائرة الاشتباكات، ومنعها من الانتشار في كل المخيم، حيث تمسكت كافة الفصائل الفلسطينية ومن ضمنها قادة في حركة فتح بالهدوء وعدم الانجرار خلف الاستفزازات الكثيرة، وهو ما فوت الفرصة على بعض الأطراف خصوصاً المجموعات المتطرفة  ودفعها نحو الموافقة وقف إطلاق النار.

كما أن الضغوط الفصائلية واللبنانية وغضب مرجعيات الأطراف اللبنانية المتواجدة في مدينة صيدا، كانت سبباً مهماً في دفع حركة فتح لوقف إطلاق النار، خاصةً وأن هنالك أصوات لبنانية بدأت تناشد الدولة اللبنانية بالتدخل للحفاظ على مصالحهم وحياتهم التي أصبحت تحت التهديد. غير أن تلك العوامل الأربعة مبنية على العامل الأول المتعلق بضعف حركة فتح، وعدم قدرتها على حسم الجولة أو الثأر للعرموشي، أو حتى الاستمرار في القتال لأطول فترة ممكنه، لأن الحركة تعاني من ترهل وضعف واضح مقارنةً بالفصائل الفلسطينية أو الجماعات الأخرى.

دور هيئة العمل المشترك

تعتقد العديد من الأصوات الفصائلية أن هيئة العمل المشترك التي تضم عضوية كافة الفصائل الفلسطينية في لبنان هي الجهة الفلسطينية الرسمية المنوط بها مواجهة المشاكل الأمنية والسياسية التي تتعرض لها المخيمات، حيث تحمل بعض هذه الأصوات حركة فتح المسؤولية عما حدث، لأنها تجاوزت دور الهيئة، لكن بعد دخول الهدوء إلى مخيم عين الحلوة بدأت هيئة العمل الفلسطيني المشترك بممارسة مهامها ومحاولة الوصول إلى المتسببين في الاحداث ومحاسبتهم، وذلك عبر تشكل لجنة خاصة بمخيم عين الحلوة.

تهديد الوجود الفلسطيني في لبنان

تؤكد تلك المُعيطات على أن كل حدث أمني في المخيمات يتم فهمه فلسطينياً في سياق محاولات إسرائيل وأطراف أخرى تتقاطع معها إلى الضغط على الوجود الفلسطيني في لبنان، عبر تفريغ المخيمات من سكانها للتخلص من قضية اللجوء التي تمثل الملف الأهم بالنسبة للقضية الفلسطينية.

وهنا يمكن الوقوف على العلاقة بين ملف اللاجئين الفلسطينيين ومشروع التطبيع الإقليمي الذي تسعى إسرائيل الى تحقيقه عبر التخلص من القضية الفلسطينية بكافة أركانها ولاسيما ملف اللاجئين، حتى من يتبقى من اللاجئين الفلسطينيين في مناطق اللجوء تصبح حياتهم أكثر صعوبة، لأن الاحداث الأمنية تهدد حياة مئات الآلاف من اللاجئين الذين يواجهون في نفس الوقت ظروفاً اقتصادية واجتماعية تزداد صعوبة. خصوصاً وأنه بعد مرور أكثر من أسبوعين على أحداث عين الحلوة، تستمر المعاناة وتبقى هنالك العديد من العائلات الفلسطينية التي لم تعود الى منازلها، وهنالك الكثير من المرافق والمحال التجارية ما تزال مُغلقة، وهو ما ينعكس على الحالة الاقتصادية والاجتماعية السائدة في المخيم.

في سياق أخر، فإن مثل هذه الأحداث من شأنها أن تُعطي الفرصة لأطراف أخرى للتدخل في المخيمات، فقد أعطت واقعة دفع فتح الإسلام لارتكاب مجزرة بحق الجيش اللبناني على مدخل نهر البارد الفرصة للجيش اللبناني الى التدخل ومسح المخيم بالكامل، وهي حادثة كادت أن تنهي ثاني أكبر مخيم فلسطيني في لبنان، وتلك الواقعة تظل عالقة في الذاكرة الفلسطينية وتستحضرها مخيمات اللجوء عند أي حدث أمني.

أخيراً تعتقد إسرائيل أن حماس والجهاد الإسلامي قد شقوا طريقهم نحو بناء قدرات عسكرية في المخيمات الفلسطينية في لبنان شبيهة بحالة المقاومة في غزة، وهي مزاعم تتجاوز طاقة المخيمات الفلسطينية وقدرتها على الاستفادة من تلك البيئة التي توفرها التوازنات السياسية والأمنية هناك، لكن الاحتلال لا يتوقف عن استخدام الكثير من وسائلة لتصفية اللجوء الفلسطيني والمُضي قُدماً نحو مشروعه الرامي الى تصفية القضية الفلسطينية التي تبقى عقبة أساسية أمام مشروع التطبيع مع محيطه الإقليمي.

اظهر المزيد

إياد جبر

كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق