الحوار الفلسطينيمقالات رأيوجهات نظر

الحياد السياسي والقرار الفلسطيني المستقل: بين الممكن والمستحيل

تجربتنا النضالية كفلسطينيين، على مدى العقود الفائتة، مليئة بالثغرات والأخطاء السياسية، التي عادت بالسلب على موقع القضية الفلسطينية ومكانتها ومساحة التأييد لمسيرة النضال الفلسطيني. بل وصل الأمر إلى اتخاذ مواقف واعتماد سياسات أضرّت كثيراً بالشعب الفلسطيني ومكوّناته السياسية. قد تكون السياسات والمواقف التي ذهبت إليها بعض القيادات الحزبية الفلسطينية، في بعض المراحل تجاه الأحداث والصراعات الإقليمية، نابعةً من دافع التعاطف والرغبة في الحصول على إنجاز وتحقيق أهدافٍ ما لصالح الشعب الفلسطيني.

 لكنْ على أرض الواقع كانت النتيجة مغايرة تماماً، وبغضّ النظر عن طبيعة هذه الدوافع ومرجعيّتها، سواءٌ كانت إيديولوجية أو سياسية، فهي لا تخرج عن كونها نظرة سياسية ذاتية ضيقة، تنمّ عن ضعفٍ في عمق الفهم والقراءة الاستشرافية لهذه الأحداث ومفاعيلها المختلفة، ومدى انعكاس ذلك على المصالح العليا للشعب الفلسطيني ومسيرة نضاله الوطني.

إن مبدأ الحياد السياسي وشعار استقلال القرار الوطني الفلسطيني كان لهما مكانة واضحة في سياقات العمل الوطني الفلسطيني، وهما مبدآن إيجابيان ومحمودان بشكل عام، خاصة ونحن نتحدث عن كونهما سلوكاً لحركات تحرّرية مناضلة تتطلّع إلى تحشيد مواقف الجميع لدعم وإسناد مسيرة نضالها الوطني. ورغم صعوبة الوصول إلى حالة من الحياد والاستقلال المطلق للقرار الوطني أو السلوك والمواقف السياسية الفلسطينية تجاه الأحداث والمتغيّرات الإقليمية والدولية، إلا أن التزامات المسيرة النضالية الفلسطينية ومتطلّباتها تفرض ذاتها وتُلزم منتسبيها بالانصياع لاستحقاقاتها، على صعيد بناء العلاقات واتخاذ المواقف وتبنّي السياسات بالشكل الذي يخدم المصالح العليا للشعب الفلسطيني ومسيرة نضاله الوطني.

فرضت مساوئ ومخاطر سياسة عدم الحياد التي وقعت فيها بعض القيادات والتيارات السياسية الفلسطينية خلال العقود الفائتة على الفلسطينيين دفعَ أثمانٍ كبيرة وباهظة، سواءٌ بشكل مباشر أو غير مباشر. ولن ينسى الشعب الفلسطيني ما وقع عليه من ضنكٍ وخسائر في الساحات المختلفة التي يوجد فيها: في الأردن، أو لبنان، أو سوريا، أو الكويت، وهي نماذج من المآسي التي حدثت نتيجة لموقف عدم الحياد، إلى جانب الرغبة في الدفاع عن القرار الوطني المستقل والحفاظ عليه، من قِبل القيادات الفلسطينية.

 لكنْ، على الجانب الآخر، يجب أن نقرّ بأن النظام العربي الذي تصدّر مشهد احتضان القضية الفلسطينية منذ نشأتها وتعامل معها كجزء من مصالحه الخاصة واعتمد لها سياساتٍ مباشرة، ما زال متمسّكاً بموقعه كمصدر لشرعية الحركة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي لقراراتها ومواقفها وسلوكها السياسي، وهذا ما يضع الحركات الوطنية الفلسطينية أمام استحقاقات وعراقيل كبيرة تحول دون تمكّنها من الإبحار في مشاريعها وسياساتها ومواقفها الخاصة، ويجعلها غير قادرة على التحرّك بسهولة دون حصولها على الرضا العربي (الشرعية العربية). مما يعني أن الخيارات الفلسطينية وتقرير أفضليّتها مرتبط في جزء منه بالموقف العربي الرسمي.

إن من أهمّ معوّقات نجاح الفلسطينيين في ترسيخ مبدأ القرار الوطني المستقل والالتزام الواضح بسياسة الحياد الإيجابي هو ارتباط كثير من المواقف والسياسات الخاصة لبعض القوى والفصائل الفلسطينية، والتي فرضها الواقع القائم، بأطراف خارجية، بناءً على ما تقدّمه هذه الأطراف من دعمٍ وإسناد لهذه القوى.  فهذه القوى ترى أن هذه الأطراف تساهم في تحقيق رؤيتها لإدارة الصراع مع الاحتلال، وتحقيق هدف التحرّر الوطني، سواءٌ وفق منهج المفاوضات أو منهج المقاومة، القائمَين في المشهد الفلسطيني حالياً.

هذا الأمر عزّز عملية الارتهان والتشتّت في القرار الوطني، فضلاً عمّا أحدثته هذه السياسات والارتباطات من تعميق للانقسامات البرامجية في الساحة الفلسطينية، عزّزت حالة الضياع للقرار الوطني المستقلّ، وتركت مساحة واسعة للاجتهادات في المواقف تجاه الأحداث الإقليمية، وقد أضرّت هذه الاجتهادات بمبدأ الحياد الإيجابي الذي يحمي الفلسطينيين وقضيتهم من الردود والسياسات السلبية، كما أن هذا التشظّي في الحالة الفلسطينية  أعطى فرصة للاحتلال لكي يعزّز من قدرته على تحقيق أهدافه على كلّ الصعد، سواءٌ تجاه الشعب الفلسطيني بتعزيز جوانب الفشل والتراجع في مساره النضالي، أو تجاه تعزيز مكانته في السيطرة والتحكّم بمقدرات الشعب الفلسطيني  والانتشار وبناء العلاقات على مستوى العالم. وما استراتيجية التطبيع إلا عنواناً لنجاح الاحتلال في ذلك، في ظلّ غياب وحدة الموقف الفلسطيني القائمة على الرؤية الاستراتيجية الجامعة.

في ظلّ حالة التعقيد والتباين القائمة حول القضية الفلسطينية ومسارها النضالي، سواءٌ على الصعيد الداخلي الفلسطيني أو على صعيد مواقف الظهير العربي والإسلامي، يبقى السؤال القائم: هل يمكن للفلسطينيين أن يكونوا أكثر قدرةً على تعزيز مبدأ استقلال القرار الوطني والالتزام بمبدأ الحياد السياسي الإيجابي؟ وما هي متطلبات ذلك؟

لكي نستطيع صناعة مقاربة مناسبة كإجابة عن هذا التساؤل، لا بدّ أولاً من الإشارة إلى معوّقات الواقع القائم، التي تحول دون تحقيق هذا الهدف. ثانياً، يجب أن يكون هناك تحديدٌ دقيق للعوامل التي يجب أن تتوفر من أجل تحقيق هدف تعزيز مكانة القرار الوطني المستقل وكذلك تثبيت مبدأ الحياد. وأهم العوامل التي نراها أسباباً جوهرية قائمة وتدفع القرار الوطني الفلسطيني إلى الارتهان للتجاذبات والمحاور والسياسات الإقليمية هي:

– عدم وجود مؤسسات سياسية شرعية تعكس واقع الساحة الفلسطينية.

– غياب الممارسة الحقيقية لمبدأ الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة

واحترام نتائجها.

-غياب الإقليم السياسي المستقل ونشوء الخلافات والنزاعات السياسية بين مكوّناته.

– غياب عامل الاستقلال الاقتصادي واعتماد الفلسطينيين على الدعم الخارجي بشكل شبه كامل.

– سياسة الاحتلال في تعمّد تغييب وتهميش الكيانية الفلسطينية.

– إصرار بعض الأطراف الفلسطينية على نهجٍ منفرد في التعامل مع الصراع بعيداً عن مطلب الإجماع الوطني.

– إصرار بعض الكيانات العربية على إبقاء الحالة الفلسطينية ضمن مسارها السياسي وتحت وصايتها بهدف الحفاظ على مركزيّتها ورمزيّتها القيادية.

– استخدام بعض الأطراف الدولية الورقة الفلسطينية في إطار صراعاتها الإقليمية.

إذاً، كيف يمكن الخروج من هذه المعضلة؟ وما هو المطلوب فلسطينياً؟

هناك جملة من الخطوات التي يجب أن ينجزها الفلسطينيون لكي يحقّقوا هدف استقلال القرار الوطني واعتماد سياسة الحياد الإيجابي، أهمّها:

– إعادة بناء مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني بطريقة تعكس واقع الخارطة الحزبية القائمة.

– تشكيل أو انتخاب قيادة وطنية ذات توجهات نضالية ملتزمة بالثوابت الوطنية وقادرة على صيانة القرار الوطني المستقل.

– تحييد القرار الشخصي الذي طالما تقدّم وتغلّب على القرار الوطني الجامع والالتزام بالقرار المؤسسي.

– احترام قرار الاجماع والالتزام به في التعامل مع الموقف السياسي تجاه المتغيرات السياسية.

 – اعتماد برنامج نضالي جامع قائم على توافقات الحد الأدنى بين الفصائل والقوى الفلسطينية.

– التحلّل من كلّ السياسات والالتزامات التي كان سبباً في انقسام الحالة الوطنية والعودة إلى مربع الاجماع.

– تعزيز مبدأ الاكتفاء الذاتي اقتصادياً، وعدم قبول الدعم المشروط.

وبالتالي، إذا ما استطاع الفلسطينيون تحقيق جملة هذه المطالب، فإن مسار حراكهم الوطني سيفرض على جميع الأطراف احترام سياساتهم المعتمدة وبرامجهم النضالية.

على الجانب الآخر، فإن فصائل العمل الوطني الفلسطيني يقع على عاتقها التزامات بشكل منفرد وجماعي للوصول إلى تحقيق هذا الهدف، كما يقع عليها واجب العمل والانتباه إلى عدم الولوج في مساحات وساحات صراع دون إعمال النظر بشكل أمين وواعٍ، كي لا تقحم الحالة الفلسطينية في أتون هذه الصراعات، ما يجنّب الشعب الفلسطيني وقضيّته كثيراً من الصعاب والسلبيات، فضلاً عن ضرورة توحيد مواقفها تجاه الصراعات والتحالفات القائمة، على قاعدة الحفاظ على استمرارية النضال الفلسطيني وتحشيد مواقف الأمة لصالح المشروع التحرري والتصدي لمشاريع الاحتلال على كلّ الصُّعد.

 أما السلطة الفلسطينية ومن خلفها حركة فتح، وانطلاقاً من كونها تتصدّر مشهد القرار السياسي الفلسطيني، وتحمل صفة التمثيل في نظر العالم، فعليها أولاً إدراك خطورة بقاء الحالة الفلسطينية على ما هي عليه من انقسام وتشظٍّ وارتهانات وتحالفات متعارضة مع مصالح الشعب الفلسطيني، لأنّ ذلك يطيل عمر الاحتلال، ويمكّنه من الاستمرار في تحقيق أهدافه، ويُفقد الشعب الفلسطيني القدرة على تجميع قوّته واستثمارها، وذلك يدفع الأمة وأصدقاء الشعب الفلسطيني ومؤيدي نضاله إلى الانفكاك عنه، فاستقلالية القرار الوطني والتزام سياسة الحياد الإيجابي ضرورة وطنية وسياسية وتحررية بامتياز، والمدخل الرئيس لذلك هو التوقف والاستدارة إلى الخلف تجاه تمتين الجبهة الداخلية والتحلّل من كلّ الالتزامات التي فرضها مشروع التسوية مع الاحتلال، كما يتعيّن الالتزام بمخرجات الحوارات الوطنية، التي تُعتبر أساساً لوحدة الموقف الوطني والمدخل الرئيسي لاستعادة الاستقرار السياسي في الساحة الفلسطينية. 

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء مجموعة الحوار الفلسطيني.

الوسوم
اظهر المزيد

تيسير محيسن

تيسير محيسن كاتب وأكاديمي يعمل في حقل الاعلام مستشاراً للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة، وعضو فى مجلس إدارة مجلس العلاقات الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق