مقالات

القضية الفلسطينية في ضوء المقاربة الإقليمية الجديدة

ملخص

  • لم تعد القضية الفلسطينية ذات أولوية في خريطة السياسات العربية خصوصًا بعد اتفاقات إبراهام. كما لم تعد المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية شرطاً عربياً للتحاور مع تل أبيب. ومع ذلك، فالقضية الفلسطينية لم تنتهي، لكن تحولت لملف أمني إستراتيجي في المنطقة مع تخفيف الحمولة الأيديولوجية (القومية، الإسلاموية، اليسارية،…) في التعاطي معه عربيًا.
  • الشرق الأوسط لم يَعد أولوية قصوى للإدارة الأمريكية تحت قيادة جو بايدن، حيث التركيز الآن على الصراع في آسيا لإحتواء الصين، والحرب الروسية – الأوكرانية. إلا أن التصعيد الأخير في الضفة الغربية والقدس نتيجة سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لفت انتباه البيض الأبيض، وجاءت زيارة وزير الخارجية أنطوني بلينكين إلى مصر وإسرائيل والضفة الغربية للتأكيد على عدم الإنسحاب الكامل لواشنطن مِن الإقليم، وإلتزامها بالتوصل لإتفاق سياسي في ضوء “حل الدولتين” بالإضافة لملفات آخرى: الملف الإيراني، وقوات فاغنر الروسية مِن ليبيا.
  • غياب مصر عن إتفاقات إبراهام لم يمنعها مِن التعامل معها كأمر واقع وتنتدمج في البنية التي تشكلت أمنيًا وعسكريًا وإقتصاديًا وظهر هذا في إطار قمة النقب والمنتدى المُنبثق عنها. وأكدت زيارة بلينكن دور مصر في وقف تصعيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والتزام القاهرة بحل الدولتين.
  • الإحتلال يترسخ مع وزراء مُتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، بينما يظل الفلسطينيون منقسمين ويخضعون لمجموعتين مُتصارعتين حَماس – فتح، حيث يتأزم الواقع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي في قطاع غزة، بينما القيادة في الضفة الغربية يُهددها فقدان شرعيتها مع فقد أي مظهر من مظاهر السيطرة التي كانت تتمتع بها في السابق ولم تعد السلطات قادرة على طرح أي حلول مستقبلية تؤكد على بقائها كحكومة معترف بها وكيف ستدير المرحلة الانتقالية بعد الرئيس محمود عباس.

ليس مِن المُرجح نشوء نظام إقليمي بقيادة إسرائيل، خصوصًا في ظل مقاربات مُختلفة بين  مصر والسعودية والإمارات في الملفات الأمنية مثل كيفية التعامل مع إيران وسوريا واليمن، ومازالتا القاهرة والرياض تربطان التقارب مع تل أبيب بالوضع داخل الأراضي المُحتلة وخفض التصعيد العسكري مع قطاع غزة.

المقدمة

منذ نكبة عام (1948)، استحوذت القضية الفلسطينية على اهتمام الدول العربية داخليًا وخارجيًا، وتم التعامل معها على أنها أولوية قصوى. ودائمًا ما كان يتم تأطير العالم العربي ككتلة متجانسة تحت وطأة الأيديولوجيات التي نشأت خلال الحرب الباردة، مع تجاهل أن لكل دولة عربية مجموعة مصالح خاصة. لكن هذا النمط التوحيدي -قسرًا- في السياسات العربية تجاه القضية الفلسطينية تعرض لإختبار قوي مع الانتفاضات المعروفة بالربيع العربي، والتي أضافت عددًا من المُشكلات أبرزها: البلدان الفاشلة، وانتشار العنف والصراعات المسلحة، والإرهاب، والهجرة بنوعيها: هجرة الكفاءات وهجرة غير شرعية، السياسات الطائفية، وأخيرًا أنماط جديدة من التحالفات والتدخلات الخارجية. وكان لما سبق تأثير سلبي على مطالب الناس الأساسية للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتنمية. وفي ضوء هذه المُتغيرات، تَظهر تساؤلات مثل: كيف هي العلاقات الفلسطينية – العربية؟ وماذا عن الحالة المتردية للسياسة الفلسطينية الداخلية والخارجية؟ وهل اليمين الإسرائيلي المتطرف يؤثر على مسار تطبيع العلاقات مع دول الجوار؟ هل التحالفات الإقليمية للدول العربية كافية لملئ فراغ الولايات المتحدة؟ وكيف يُمكن للشرق الأوسط أن يحظى بالسلام في ضوء الصراع الإسرائيلي – الإيراني؟ مع التأكيد أن الكثير مِن الإجابات ستبقى مُعقدة.

جغرافية مُضطربة لشرق أوسط جديد

في سياق جيوسياسي مضطرب كان هُناك حاجة إلى نظام مستقر وقوي من العلاقات المتبادلة والتعاون بين اللاعبين المهمين في الشرق الأوسط، ما دفع الحكومات العربية إلى الحديث عن بنية تتجمع تحت هدف استراتيجي هو: الإستقرار داخليًا، مع رفض أي تصعيد عسكري خارجيًا. لذا عملت الدول العربية الرئيسية في الخليج (باستثناء قطر تقاربت لاحقًا) ومصر والأردن والمغرب على التخلص مِن الأيديولوجية الإسلاموية داخليًا، وغلق ملفات الصراع خارجيًا وبدء تحالفات إستراتيجية تُحقق لكل بلد على حدى مصالحه دون اللجوء لتدخل في شؤون البلد الآخر، أو التهديد أو السياسات المزدوجة. لذا وسعت تلك الحكومات علاقاتها الدبلوماسية والأمنية بشكل مُشترك كما وسعوا تحالفاتهم الإقليمية لتشمل اليونان وقبرص في منطقة شرق المتوسط، بينما تسعى تركيا الآن لتخفيف مِن حدة العداء في سياستها للإنضمام إلى النظام الإقليمي الآخذ في التشكل.

وكان للأولويات المتغيرة للولايات المُتحدة دور كبير في السياسات العربية في البنية الجيوسياسية لمرحلة ما بعد الربيع العربي، حيث أدت تداعيات حرب العراق عام (2003) والحروب الأهلية في الشرق الأوسط إلى إحداث تغيير في النظرة الأمريكية تجاه المنطقة حيث بدأت بالانسحاب مِن حروب بلا نهاية في ضوء استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيط الهادئ والهندي، مما جعل قوى أخرى تندفع لملء الفراغ كان أبرزهم روسيا وتُركيا وإيران.

وأصبح على اللاعبين الإقليميين مواجهة فوضى ذات طابع مُسلح واسعة النطاق في (ليبيا، سوريا، لبنان، العراق، اليمن)، مما أجبر الحكومات في المنطقة على تقييم مواقفها الاستراتيجية والتفكير في بدائل إستراتيجية لتحقيق الاستقرار والأمن أولًا ومنع التدخلات المُحتملة مِن قبل القوى المُتكالبة على النفوذ في الإقليم. على هذه الخلفية، بدأت دول الخليج تنظر إلى إسرائيل، وإمكانياتها العسكرية والتكنولوجية، كوسيلة لتحقيق التوازن في مواجهة أي خطر وفق مفهوم أمنها القومي، مع اعتبار إيران أبرز ما يُهددها.

في هذا الشرق الأوسط الجديد، أصبحت مصالح الدولة هي الأولوية. وقد أكد هذا التوقيع على اتفاقات سلام (اتفاقات إبراهام)، مِن قبل الإمارات والبحرين والمغرب والسودان (لم يصادق بعد على الاتفاقيات) حيث هدفت دول الخليج لحماية مصالحها الأمنية والعسكرية وتوسيع استثمارها التكنولوجي بينما هدفت الحكومة السودانية لشطب بلادها من قائمة وزارة الخارجية الأمريكية لرعاة الإرهاب للبدء في طلب الدعم من المؤسسات الدولية لحل الازمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة داخليًا. أما المغرب فهدفت للحصول على حليف قوي ضد توسع الحضور الروسي (الحليف للجزائر) في المحيط الافريقي، وانتزاع الدار البيضاء لاعتراف أمريكي بسيادة مغربية على إقليم الصحراء الغربية المتنازع عليها.

السياسة المصرية – الفلسطينية: ملف أمن قومي

لطالما كان العامل المحدد الرئيسي لمسار العلاقات المصرية – الفلسطينية منذ سيطرة حماس على غزة هو الأمن القومي. حيث أصبحت القضية الفلسطينية ملف دائم في أروقة أجهزة الأمن المصرية. وباستثناء الفترة القصيرة مِن توتر العلاقات ما بعد الإطاحة بنظام حُكم الأخوان المسلمين في مصر، تدريجيًا انخرطت حماس لحماية مصالحها في عملية احتواء الجماعات المتطرفة في شبه جزيرة سيناء وتنفيذ عمليات تطهير ضد الجهاديين السلفيين داخل قطاع غزة، بينما أولت القاهرة اهتمامًا أكبر لاحتياجات الحركة لتحسين الوضع الإنساني في غزة وفتح معبر رفح للسفر والتجارة. 

على الجانب الآخر، كانت السلطة الفلسطينية تشعر بالرضا بشكل واضح للإطاحة بحكم الإخوان المسلمين حيث ستعود القاهرة للعب دور وسيط بين حماس – فتح دون أي انحيازات أيديولوجية. نظريًا القاهرة تؤكد ضرورة مواصلة جهود عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، لكن عمليًا لا تنخرط في أي ضغط على طرفي الصراع لتطبيق هذا. خصوصًا أن عودة فتح لغزة قد تعني توتر علاقات حماس مع القاهرة ما يؤدي لتأثر الملف الأمني في سيناء.

 في السياق ذاته العلاقات المصرية – الإسرائيلية أخذت طابع أكثر مرونة عندما تم التركيز على الأمن القومي لكلا البلدين في مكافحة التطرف والإرهاب، وتم تجاوز الكثير مِن الشروط العسكرية المتعلقة بإتفاقية السلام بينهما، وعلى مستوى أمني أوسع، تشترك مصر وإسرائيل في قلقٍ مشترك فيما يتعلق بالصراع السعودي – الإيراني، وتزايد نفوذ طهران، بالإضافة إلى برنامجها النووي ذا الطابع العسكري. وذلك مع الإبقاء على حالة “السلام البارد” التي وصمت حقبة ما بعد الرئيس المصري الراحل أنور السادات. لتصبح العلاقات بين القاهرة – تل أبيب لا تُقصي الفلسطينيين، الذين يستفيدون منها أيضًا، على سبيل المثال عندما يتعلق الأمر بالوساطة في النزاعات، وإعادة إعمار غزة، واستئناف عملية السلام.

تاريخياً، ساهمت الدبلوماسية المصرية في الحفاظ على عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، لأنها مرتبطة في الأصل باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. وهو يتضمن ما يسمى “إطار السلام في الشرق الأوسط” سعياً وراء إقامة الدولة الفلسطينية والسلام العربي الإسرائيلي، والذي كان فيما بعد نموذجاً لاتفاقيات أوسلو. ومع ذلك، أدى انهيار عملية السلام التي قادتها الولايات المتحدة عام (2014)، وفشل المبادرات لإحياء مبادرة السلام العربية عام (2002) إلى طرح مقترحات جديدة تمامًا للسلام. هنا، أثارت خطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لعام (2020) المسماة “السلام من أجل الازدهار” التي تستند إلى حد كبير على الحوافز الاقتصادية والإنسانية على حساب تسوية سياسية للقضية الفلسطينية اهتمامًا واسعًا. لكن في الواقع، كان اقتراح ترامب يعني قطيعة مع الشروط الأساسية للسلام على طول تاريخ المحادثات التي ترعاها الولايات المتحدة والتي أقرتها مصر. 

ومع ذلك، وبسبب عدم رغبة  مصر في توتير العلاقات الدبلوماسية مع الإدارة الأمريكية الجديدة، لم ترفض الخطة تمامًا، على عكس الفصائل الفلسطينية والأردن، وهي دولة عربية أخرى عقدت السلام رسميًا مع إسرائيل. بينما ظلت التصريحات الرسمية المصرية مُحايدة ولم توضح ما إذا كانت القاهرة ستتخلى عن “صيغة الدولتين”. لكن استنكرت الحكومة المصرية علناً نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كما انتقدت خطوة تل أبيب لضم (30%) من الضفة الغربية.

مع نهاية عهد الرئيس ترامب، وتوقف خطته للسلام، استأنفت القاهرة دبلوماسيتها التقليدية لبناء محادثات السلام على أسس المبادرة العربية لعام (2002)، أي “الأرض مقابل السلام” لكن كان هناك حقيقة لا يُمكن تجاهلها وهي أن في عام (2020)، وقعت أربع دول عربية (الإمارات، والبحرين، والسودان، والمغرب) اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. حاولت مصر الموازنة بين عدم إعتراضها على موقف الدول المُطبعة عبر الإشتراك في قمة النقب وفي علاقتها مع القيادات الفلسطينية المختلفة، وبذلت جهود سلام مختلفة جمعت بين فاعلين عرب وأوروبيين لمناقشة فرص إحياء محادثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية. كما دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك نفتالي بينيت لزيارة مصر لإجراء محادثات منفصلة، على الرغم من أن حزبه اليميني المتطرف لا يقبل حل الدولتين. وهناك شبه إجماع بين جميع الأطراف المعنية في ظل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة الحالية بقيادة بنيامين نتنياهو، لن يكون هناك تقدم ملموس. 

ومع ذلك، وبالرغم مِن صعوبة المشهد الفلسطيني – الإسرائيلي تتمسك القاهرة بحل الدولتين، وهذا أكدته في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، مع الاستمرار في الديناميكيات التقليدية مثل بناء الثقة وتنمية العلاقات والحفاظ على القنوات الدبلوماسية مفتوحة لجميع الأطراف وإن لم تقدم خطوات جادة نحو السلام، لكنها تحتفظ بقدر أدنى من الهدوء والاستقرار من خلال منع أي إشتباك عسكري بين الفلسطينيين والاسرائيلين، جنبًا إلى جنب مع تقدم جهود إعادة الإعمار والدعم الاقتصادي مما قد يؤدي إلى تحسين الوضع اليومي للفلسطينيين بشكل نسبي، وخاصة في غزة.

الدول العربية – فلسطين: معادلة الأمن أولًا

أدى صعود إيران وتراجع النفوذ الأمريكي أيضًا إلى تغيير التحالفات الإقليمية، جنبًا إلى جنب مع مشاركة روسية وصينية أكبر. وقد نتج عن هذه العوامل تغيرات راديكالية في سياسة عدد مِن اللاعبين في المنطقة أبرزهم: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب. فالتحول الجيوسياسي لعقد ما بعد الربيع العربي وحده يملي تغييرًا في طريقة عملهم حيث بدأت الدول الإقليمية في التحوط الاستراتيجي، وتوسيع علاقاتها مع روسيا والصين، لا سيما في المجال الاقتصادي، مع بقائها في المعسكر الأمريكي. ويرجع هذا التطور في السياسة في المقام الأول إلى تخفيض واشنطن للأهمية الاستراتيجية للشرق الأوسط، فضلاً عن الدعم الأمريكي خصوصًا مِن الإدارات الديمقراطية لاتفاق نووي مع إيران، ما جعل سياسات واشنطن غير قابلة للتنبؤ في نظر حلفائها التقليديين.

كما لعبت الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة الجمهوري دونالد ترامب دورًا في التخلي عن المقاربات السابقة للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، ودعت إلى تبني نهج جديد “واقعي” يمكن أن يحل الصراع المزمن، وأن يكون هذا النهج الجديد مدفوعًا بنتائج عملية. وأعلن الرئيس ترامب في خطابه أمام القمة العربية الإسلامية الأمريكية في (21) مايو (2017): أن إدارته “تتبنى الواقعية المبدئية، المتجذرة في القيم المشتركة والمصالح المشتركة”. وأن إدارته “تسترشد بالنتائج وليس بالأيديولوجية”، مؤكدًا أن إدارته ترغب في أن تمنح الفلسطينيين كل القوة ليحكموا أنفسهم ولكن بدون منح الصلاحيات لتهديد إسرائيل.

وفي ضوء هذا عملت إدارة ترامب باستمرار على سد الفجوة بين الدول العربية وإسرائيل، بعبارة أخرى، كان إحداث تغيير في النظرة لمن يمثل أكبر تهديد للاستقرار في الشرق الأوسط وهذا يعني أنه تم تقديم إسرائيل كشريك محتمل وليس عدو في مواجهة عدد كبير من القضايا المشتركة بينما تم تصوير إيران على أنها المصدر الرئيسي لتلك القضايا. لذا دمج تل أبيب في المنطقة سيسمح لها بالمساعدة في مواجهة مجموعة واسعة من التحديات الاقتصادية وكذلك مواجهة تهديدات طهران، ومكافحة الجماعات والمنظمات الإرهابية.

وجاءت اتفاقيات إبراهام كتتويج للتغيرات الجوسياسية للمنطقة. لتُعلن نهجًا عربيًا جديدًا قائم على المصالح المشتركة في الشؤون الخارجية، مع استبعاد المبادئ السابقة للتضامن العربي مع الفلسطينيين والتضامن الإسلامي الأوسع. لكن أهم مكاسب السلام، لم تكن السفارات المفتوحة، والسفر، والتعاون الاقتصادي والثقافي مع الدول التي وقعت فقد كان الأمن القومي هو المسألة الحاسمة.

تعاونت إسرائيل والمغرب سرًا على المستويين العسكري والأمني لعقود، خصوصًا في ظل التوتر المغربي – الجزائري. لكن بعد انضمام الرباط إلى مُعاهدات السلام، أعلنت عن مذكرة تفاهم وقعها وزيرا الدفاع الإسرائيلي والمغربي في نوفمبر (2021)، مما مكّن إسرائيل من توسيع مبيعات الأسلحة إلى المغرب، وكانت هذه أول اتفاقية دفاع على الإطلاق يتم توقيعها بين إسرائيل ودولة عربية. لتأتي بعدها مملكة البحرين -التي شهدت حراك أخذ منحى طائفي واعتبرته دول منظمة التعاون الخليجي تدخل إيراني- لتوقيع اتفاقية أمنية بين  وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ونظيره البحريني، عبد الله بن حسن النعيمي في يناير (2022). كما شهد اللقاء الخماسي في مارس (2022) والذي جمع في تل أبيب، وزراء خارجية إسرائيل، المغرب، الإمارات، البحرين، والولايات المتحدة، بحث سبل مواجهة إيران والإرهاب عبر زيادة التعاون الأمني والإستراتيجي بين إسرائيل والدول العربية.

وزادت أزمة اليمن تعقيد الموقف العربي -الخليجي خصوصًا- مِن الملف الفلسطيني فبعدما بدأ الحوثيين بقصف المملكة العربية السعودية والإمارات المُتحدة بصواريخ ومُسيرات إيرانية، وظهور دعم شعبي في شوارع غزة التي تخضع لحُكم حماس لجماعة الحوثي، وعلاقة الحركة الوثيقة مع الحرس الثوري الإيراني، وبالإضافة إلى موقف السلطة الفلسطينية الرسمي مِن عدم دعم الرياض في الاتحاد الآسيوي كلها مشاهد رسمت تدهور العلاقات الخليجية – الفلسطينية، وصنعت مُسوغات إضافية تُستغل في تقبل مواطنين هذه البُلدان لزيادة حجم التعاون مع تل أبيب ضد التهديدات الأمنية ومنها طرح مشروع دفاع صاروخي إقليمي عبر نشر منظومات جيش الدفاع في الخليج.

أزمة في الحكم: فلسطين تُهدد نفسها

شهدت الستينات منافسة مصرية – سعودية، ومصرية – سورية حول الملفات العربية وطُرق التعاطي معها وكان الأهم آنذاك “القضية الفلسطينية” وانعكس هذا على تنافس من حيث مستوى الدعم للفلسطينيين واستغلال فلسطين كشرعية شعبية لأنظمة الحكم المُختلفة. الآن، اختلف الوضع حيث أصبحت الأنظمة العربية أقل تنافسًا -عدا الأزمة الرباعية مع قطر، حيث اندفعت الأخيرة للتركيز بشكل موسع على فلسطين ومهاجمة التطبيع- لكن بقت القيادات الفلسطينية على نهجها القديم في التورط في المحاور الإقليمية المتنافسة والمستقطبة لتدعيم سلطتها مع عدم الإهتمام بكيفية حشد الدعم العربي والإقليمي والدولي للمواجهة مع إسرائيل.

حيث تتورط حماس في عداء مع مصر بعدما تمت الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين، ثم انضمت لمحور تركيا في صراعها على النفوذ في البحر المتوسط، بالإضافة لدعم عملها العسكري ضد سوريا، قبل أن تعود الحركة وتخفف من مواقفها وتعيد العلاقات مع القاهرة ودمشق وتنفصل مواقفها السياسية عن حركة الإخوان. بينما السلطة الفلسطينية تولي صراعها مع حماس كُل مجهودها، وتكثف نشاطها الأمني مع إسرائيل لمنع الحضور العسكري والجماهيري لحماس في الضفة الغربية حيث تظهر الحركة شعبية لا بأس بها في انتخابات الجامعات.

دفع هذا بالرئيس محمود عباس بإلغاء الانتخابات وبخنق أي حراك شعبي، وبالسيطرة الشاملة على مقاليد السلطة في الضفة الغربية، حيث يشغل عباس ثلاثة مناصب قيادية هم: رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وقائد حركة فتح. وتستفيد الحكومات اليمينية المُتعاقبة من إخفاق المسارات الفلسطينية في صُنع ديناميكية لحكمها، حيث تشرعن تل أبيب عمليات الإستيطان والتهجير واستمرار التنسيق الأمني مع حد أدنى من تكلفة الاحتلال.

المشكلات الداخلية والخارجية للبلدان العربية، جعلت رغبتهم محدودة في الانخراط في المشاكل الفلسطينية – الفلسطينية، مما يعني فقدان الدعم الإقليمي للفلسطينيين، على صعيد آخر قد يعني هذا أنه من الضروري للفلسطينيين إعطاء الأولوية للقضايا الاجتماعية والاقتصادية كأساس لمفاوضاتهم، مع تنحية الاعتبارات الأيديولوجية جانبًا في ظل التشدد اليميني الإسرائيلي، خصوصًا في ضوء المواقف الدبلوماسية الأمريكية والمصرية والمغربية التي جاءت مؤخرًا لتؤكد على حل الدولتين، والسلام مقابل الأرض، ما يعني أن السلام لا يزال مطروحًا على الأقل تيكتيكيًا.

إسرائيل لا تضمن الأمن العربي

القراءة العربية للتهديد الإيراني لمصالحها، تجعل إسرائيل فاعل في المنطقة عسكريًا وأمنيًا، لكن القدرات الإسرائيلية لا تكفي لحماية أمن الخليج، ولا يمكنها أن تكون بديلًا عن الحضور الأمريكي. بالإضافة لموقف واشنطن الرافض لأي عمل عسكري ضد طهران مما يدفع تل أبيب لحماية نفسها من الهجمات الصاروخية أو الطائرات المُسيرة الإيرانية عبر توسيع أجهزة الردع والدفاع في الدول العربية القريبة مِن طهران.

ولا تزال مصر حذرة من الحضور الإسرائيلي في الفضاء الاقليمي العربي حيث يصبح هذا مُهدد لها في فضاء أمنها الاستراتيجي في البحر الأحمر، والمتوسط، ما دفع القاهرة لزيادة اتصالاتها مع حماس في الصدامات العسكرية الأخيرة، لتأكد أنها لا يمكن تجاوز نفوذها في أي نظام أمني إقليمي مع تأكيد رفضها الانضمام لأي تحالف عسكري موجه ضد دولة في الاقليم. بينما السعودية التي لم تُطبع رسميًا إلى الآن، تخشى مِن زيادة المنافسين على ملء الفراغ الأمريكي المُحتمل في الشرق، حيث لا تريد أن تذهب لإسرائيل دون تسوية على الأقل مع إيران تضمن أن تكون المصالح والعلاقات بين الرياض – تل أبيب مُتكافأة.

عدم إهتمام إسرائيل بسياسة المحاور يجعلها لا تنخرط سريعًا في معادلة أمن الخليج، فعلاقات تل أبيب مع تركيا تاريخية، توسعت الأخيرة سريعًا لعودة التطبيع وتجاوز خلافات السفينة مرمرة، والمواقف الأيديولوجية الداعمة للإخوان المسلمين وحماس، من أجل موازنة الموقف الإسرائيلي بين أنقرة وأبوظبي المتنافستان في عدة ملفات أبرزها كان دعم الإسلام السياسي، وشرق المتوسط، وليبيا، وسوريا.

الموقف الروسي والصيني الناشط في الشرق الأوسط يرغب في تقليص الصراعات وعدم اندلاع حروب جديدة في محاولة لتركيز الحضور على جوانب إقتصادية وأمنية بدلًا من أن تصبح المنطقة استنزاف لنفوذهم، لذا حرصت كل من موسكو وبكين على علاقات متوازنة مع العواصم العربية وطهران وتل أبيب. 

نهاية مفتوحة على كُل السيناريوهات

باستخدام نهج وصفي – تفسيري تم تقديم فهم للتحول الإستراتيجي في العلاقات العربية – الفلسطينية وتوقع تداعياتها الجيوسياسية في ضوء مفهوم الأمن القومي الذي أصبح المحرك الرئيس لسياسات مصر ودول مجلس التعاون الخليجي والمغرب ما بعد الربيع العربي.

كانت المحاولة للإجابة على تساؤلات المقدمة تأتي في سياق أن السياسات المصممة تجاه إيران والعلاقات الإسرائيلية الفلسطينية مترابطة وكلاهما يلعبان في ديناميكيات التحول الجيوسياسي. وإن ما جعل السياسات الخارجية للبلدان العربية تختلف هو تبني مقاربات جديدة والسعي لرؤية جيوسياسية تحويلية للمنطقة.

إن السياسات الخارجية العربية القائمة على “التراجع الأمريكي المتزايد عن المنطقة” قد تساعد في حل بعض القضايا الأمنية لمصر ولدول مجلس التعاون الخليجي وإسرائيل، على المدى الطويل، والتحول إلى استراتيجية “الموازنة الخارجية” حيث يمكنهم وقتها الاعتماد بشكل أكثر فاعلية على فكرة الحلف الإقليمي بعد تطوير خبرة واسعة في التعاون الأمني. 

يقلل الظرف الجيوسياسي أي احتمال سلام مستقبلي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. حيث اليمين المتطرف يحكم إسرائيل ويرفض أي حديث عن “حل الدولتين” وعربيًا تم التخلي عن مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وقد أدت اتفاقات إبراهام إلى تهميش حقوق الفلسطينيين. لكن قد يكون هذا دفعة للسلطات الفلسطينية على الأقل لبدء تبني نهج أكثر مؤسساتية في الحُكم، وحدوث سلام فلسطيني – فلسطيني.

ليس مِن المؤكد استمرار حالة خفض التصعيد الاسرائيلي – الفلسطيني، في ضوء ممارسات الاحتلال الاستطيانية والاغتيالات والقتل العشوائي ومصادرة حقوق الفلسطينيين، كما أن بقاء الإدارة الديموقراطية في الحكم لمحاولة الضغط على الحكومة الإسرائيلية أمر مشكوك فيه، ما يعني أن صعود يميني آخر في البيت الأبيض قد يفجر الأوضاع في فلسطين. 

الوسوم
اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق